هُدهُد

تم تشخيصي باضطراب تشتّت الانتباه وفرط الحركة، وهو أمر كنت أتوقعه. كانت عملية التشخيص من زاوية نظري جيّدة مقارنة بتجربة أحد الأصدقاء والقصص التي أطلعت عليها في فضاء الانترنت، فالتشخيص تمّ من قبل متخصّصتين في جلستان منفصلتان مجموعهما يقارب ١٥٠ دقيقة، شملت نواحي مختلفة في حياتي السابقة والحالية تخلّلها بعض النقاش وأسئلة من طرفي. في نهاية الجلسة الأخيرة أخبرتني الطبيبة النفسية بالتشخيص على الرغم من عدم وجود حاجة لتدخل علاجي أو سلوكي، كون الأعراض لا تؤثر بشكل كبير على حياتي اليومية (فنكشننق). حتّى يطمأن قلبي أكثر سألت الطبيبة عن مدى الثقة بالتشخيص؟ وإمكانية نفي وجود أعراض فرط الحركة وتشتت الانتباه عندي، فأجابت أنه وعلى العكس هي ترى إثبات وجوده

وأنا أخرج من العيادة أحسست أن التشخيص كان أسهل مما توقعت ولم تتّضح أي مشاعر واضحة حوله. وبعد مرور أيام عديدة، لازلت أشعر أنه ليس يقينا لكن ربما هو خطوة إضافية أو قرينة أخرى تدعم ظني بكون عقلي مختلف ويعمل بنمط يشابه مجموعة من المختلفين الآخرين، يتفرّد كلّ منهم بغرابته الخاصّة. لاحظ أحد الأصدقاء أنّ اختصار “فرط الحركة وتشتت الانتباه” (أي دي اتش دي) يشابه لفظة “هدهد” وأعجبني هذا الوصف اللطيف فتبنيته. على الرغم من حذري المتوجّس من الوسوم “ليبل” المبني على قناعة أن هذه التصنيفات افتراضية وأنها قد تقود إلى إستدخالها بشكل يؤثر سلبيا على المشاعر والأفكار والسلوك، حتى إن كانت خاطئة، أعتقد أنه من المنطقي وضع وزن لهذا التشخيص بل واعتباره نقطة مفصلية خاصة في غياب خيارات أفضل، وعليه سأفترض أني أحد قبيلة الهداهد حتى يثبت عكس ذلك

الأسبوع الماضي كان مزدحما بأحداث كثيرة وضاغطة ولاحظت أني كنت أبعد ما يكون عن الإتزان والتنظيم والهدوء على الرغم من الإنتاجية العالية، وأظن الوقت لازال مبكّرا لمعرفة مدى استدخالي للهوية الجديدة وتأثيرها. اتفق مع تقييم الطبيبة بعدم حاجتي للعلاج في الوقت الحالي، ويكفيني كون عملية التقييم كانت خطوة باتجاه فهمي لنفسي وكيف يؤثر نمط تفكيري على حياتي اليومية واحتمالية تغذيته لنوبات الاكتئاب، حيث آمل أن أجد نمط حياة يناسبني ويجنبني الوقوع في مساوئ هذا النمط من التفكير. أن أجد طريقا في الحياة يناسب غرابتي الخاصة ويقلّل من الخسائر غير الضرورية ويقلّل تأثيري السلبي على من حولي، خاصة الأحبّة. أظنّ وصولي لمرحلة عمرية لا أقلق فيها كثيرا من كوني “مختلفا” أو يقضّ مضجعي استنكار غريب لسلوك يراه فيّ غريبا يقوده لحكم سلبي عني. قرأت في مكان ما حكمة أجنبية تقول

“people who mind don’t matter and people who matter don’t mind”

شكرا 

الرياض في الحادي عشر من ديسمبر ٢٠٢٤

انتصاف

لم تَنتصِف سنة التفرّغ بعد ولكنّ اتضّحت معالم النصف الأول بشكل كافِ لتأمّل سريع لا يهدف للتقييم. كما توقّعت، مَضت الأيام كأمواج تَحملني أكثر ممّا أسبح فيها.  تأمّلت كثيرا في نفسي وطريقة حياتي، تأمّلا لا يتّسم بالسكينة والسلام والرضى كما رَجوت ولكنّه تأمّل أشبه بالحياة، تخلّله التوتر والألم وكثيرٌ من عدم الوضوح. لازال الطريق طويلا للحكم بالشفاء النفسي الكافي لتجنّب نوبات الاكتئاب الشديدة، ولكني اليوم أكثر استقرارا ووعيا بتقلبات مزاجي وما يمكن أن يخفضه أو يحسّنه، ويظلّ الشتاء الذي فتح أبوابه هو الاختبار الأوّل لمدى التحسّن في لياقتي النفسية ومراجعتي لبعض الأفكار المغذّية للاكتئاب

لم تَكُن الفعّالية أو الإنجاز هدفا رئيسا من هذا التفرّغ ولكني كُنت أرجوا أن أقوم بأعمال تحتاج تفرّغا كنت أؤجلها لسنين، أو على الأقلّ أُقيم هيكلها لأستطيع أن أضيف عليه تدريجيا ولاحقا حال عودتي للوظيفة. لكن، اكتشفت أن ذِهني غير قادر على التركيز في أكثر من مهمّة، وعندما أحاول عمل ذلك ينتهي الأمر بفشلها جميعا. لاحظت الشهر الماضي أني أخصّص أسبوعا للتصوير وتعديل الصور ونشرها، ثم أقضي أسبوعين للكتابة والعمل على مشروع مشترك، وقبل ذلك قضيت عدّة أسابيع متفرغا لمتابعة أعمال بناء و ترميم ضرورية. الإشكالية أني وعند أوّل فرصة أترك المهمّة وأقفز لأخرى دون إنهائها أو إهدارا لتركيز و مزاج ابداعي تكّون

أجد نفسي تميل للجدولة بمعنى تحديد مهام والتركيز عليها ضمن وقت محدد، ولكن أشكّ بأن  وجود الخطوط الميتة (ددلاين) ستحلّ المشكلة أو كونها متّسقة مع نمط الحياة البطئ الذي أرجوه خلال هذه التجربة. ربمّا أجرب “التفرّغ” كمقاربة بديلة بحيث أهيء نفسي للتركيز على مهمّة واحدة دون انتظار القفز لأخرى عند أقرب فرصة؟ ربما الحلّ في الاتجاه المعاكس عبر التخلّي عن التقويم تماما والابتعاد حتى عن الساعة والجوال الذكي؟ وربما أجد الجواب داخلي في تقبّل التجربة كما هي وعدم توقّع نتائج محددة تخيب الآمال دونها؟

يراودني خوف وشكّ في عدم إكمالي لمغامرة التفرّغ، فتتضخّم المخاوف المالية على الرغم من كون المصاريف محسوبة، وتلكز خاصرتي فكرة البحث عن فرص وظيفية قد تفوت أو لا تتوفر لاحقا، يشدّ من أزر تلك المخاوف الشبح الأكبر ذا الصوت الخافت بكوني أقوم بفعل ساذج وغير مسؤول ربمّا يكلفني الكثير. يحدّثني صديق عن فرصة وظيفة جيّدة فأخاف فواتها وأخاف حصولها! منطقيا، أنا مقتنع ومستعدّ للتضحية بسنة من عمري وجهدي ودخلي من أجل تجربة حياتية وروحية وفنيّة مختلفة، أخرج منها بفائدة أيّا كانت، ولكن عدم ثقتي بنفسي تؤرقني، ربمّا الأمور يجب أن تكون هكذا؟ أن نتقدّم رغم الشكوك؟ لا أعلم 

شكرا

الرياض في التاسع عشر من نوفمبر ٢٠٢٤ 

سيرة الألم

أعتقد أن طفولتي كانت سعيدة، وإن شابَها كثير من الآلام الجسدية. كانو يردّدون في المدرسة “العقل السليم في الجسم السليم” وأردّد معهم، على الرّغم من كوني شاهدا على خطأ تلك المقولة، فقد كُنت طِفلا سقيما يَحمل ذِهنا متّقدا وذكاء حادً!  لا أتذكر إصابتي بمرض خطير في سنواتي الأولى، والتي ذَكَرت أمي أنه أحالني من طِفل ممتلئ إلى جسد نحيل بشكل استثنائي، لازمني حتى الجامعة. ولكني أتذكر جيدا الكُسور التي كانت تزورني سنويا، مرّة أو مرتين

أتذكّر الألم بداية الإصابة كونه لا يطاق فيذهلني حتّى عن التنفس! وما أن يستقر سكين الألم الذي انغرس حتى تأتي دوخه وينهار جسدي فلا أستطيع الحراك لدقائق. خلال الرحلة للمستشفى التي أصبحت روتينية مع والدي أو أحد الأعمام، أتذكّر أن الألم يهدأ بشرط عدم تحريك موضع الإصابة، لكن الألم يتحول إلى قلب نابض يتناغم مع ضخ الدم في عروقي، وأذكر حرارة الجبيرة بعد لفّها فوق طبقة القُطن حيث تُصبِح حامية وهي تنشفُ بسرعة. أذكر الحكّة التي تأتي بعد فترة ليست قصيرة والتي قيل لي أنها علامة تعافي فأتقبلها وأنا أحاول الحك تحت القطن من أطراف الجبيرة، وتزاد الرغبة الحكحوكية وتصل ذروتها عند إزالة الجبيرة وتعرية اليد أو الرجل ورؤية الجلد المتجعد كوجبة شهية لأفركها منتشيا

“انتبه تنكسر!” وتحذيرات شبيهة كانت تصدر ممّن حولي وأنظر لها كتنمّر واستنقاص، بينما أفهم اليوم أن غالبها رحمة. مع كثير من العناد وقلب أم كبير تركني وما أريد، عشت حياتي كأقراني وأخوتي فلا أذكر أني امتنعت عن فعل شيئ خشية الإصابة، مع شكّي بأن الآخرين كانوا يرأفون بي، وكان الثمن طبعا زيارات متكرّرة للمستشفى تخلّلها بعض التنويمات عندما كبرت وزادت قوتي فزادت قوة الإصابة. هشاشة عظام هو العنوان الذي اتفق عليه الجميع حينها، فجائتني النصائح بشرب الحليب الذي كنت أكرهه، وكانت أمي تربط بين مشاكلي الصحية من كسور ونحافة وقصر القامة فتجتهد بأخذي لعيادات مختصّة لم تكن تغيّر كثيرا من وضعي الصحي، ولكني أحسست بحبّها يرافقني في كلّ خطوة، وعندما كانت تشتري لي الكورن فلكس الذي أحبّه أملا في زيادة وزني

توقفت الكُسور في المراهقة واكتسبتُ الكثير من الوزن متجاوزا الحدّ الطبيعي في الجامعة، وحينها علمت أن معاناتي كانت نتيجة مرض جيني يسبب هشاشة العظام التي تتوقف مع البلوغ، فنظرت للموضوع على أنه فصل من الحياة مضى وانتهى، ولكن. عندما أظلتني غمامة منتصف الربعين أطلّ معها هذا الماضي الأليم برأسه، فلقد وقع لي حادث بسيط نتج عنه كسور متعدّدة، وعندما عُدت لأقرأ عن مرضي السابق وجدت أن أعراضه قد تعود بعد الأربعين! ليراودني شبح طفولتي الهشّة وضَعفُها من جديد

كانت الإصابة في الأضلاع رافقها ألم حاد في البداية ثمّ هدأ مع السكون، معيدا ذكريات الماضي، لكن يبدو أنّ هذه الإصابة لعينة بشكل استثنائي فلا توجد جبيرة لكسر الأضلاع ومع كلّ حركة قيام وجلوس واستواء يتجدّد الألم، والمصيبة عندما يحدث سعال أو عطسة فيتحرك الكسر بشكل كبير فتأتي طعنة التي لا يصدها أقوى المسكّنات. لأسابيع صارعت ألما أسوء من أي وقت مضى، شديد ومتكرّر يحرمني النوم كلّ ساعة وأقلّ، ما جعلني أتأمّل بأفكاري وأشعر بانفعالاتي خلال هذه المحنة

في البداية كانت الأفكار والمشاعر التلقائية السلبية مثل الحزن ورثاء الذات والتساؤل عن سبب حصول ذلك لي دون الآخرين وكيف أني سيء الحظ، وما إلى ذلك. لكني لاحظت عدم انغماسي في هذه الافكار والتركيز على اللحظة ومحاولة التعامل معها بشكل أفضل، ثم محاولة استغلال الفرص المتاحة ما أمكن والتي لم تحدّها الإصابة أو الايجابيات التي نَتَجت عنها. في بداية الإصابة كنت أتحرّك بشكل محدود وكنت مع مجموعة فحاولت مشاركتهم الفعاليات والاستمتاع بالتجربة إلى حدّ كبير، ومع تطور الإصابة اضطررت لدخول المستشفى ما أحاطني بالكثير من الحب والرفقة الجميلة فحاولت قضاء وقت ممتع معهم ما أمكن، وأن لا يذهلني الألم عن الأرواح الجميلة حولي وابتسامة حبيبتي المذهلة

لمدّة أسبوعين من الإصابة التي هيمنت على حياتي اليومية وحرمتني النوم، حاولت تخفيض معاناتي النفسية عبر التأمل والقراءة ومشاهدة الكثير من المقاطع السخيفة. خلال هذه التجربة، لا أعتقد أني قمت بشيء استثنائي بقدر ما ظهر لي مقدار التغيّر الذي حصل في شخصيتي خلال السنوات القليلة الماضية. واليوم أبدأ رحلة فهم وضعي الصحي بشكل أفضل والتفكير في طرق التعامل مع الضعف البدني الذي يراودني مع التقدّم بالعمر، مذكّرا بضرورة الاعتناء بجسدي والتزام نمط حياة أكثر صحّة 

شكرا 

الرياض في الحادي عشر من نوفمبر ٢٠٢٤

أوراق الخريف اليابانية

إقليم ناغانو، محافظة إيدا، هجرة أوديرا، بيت كاميّا. عُنوان كبسولة الزمن التي عشناها في العشر الأواخر من أكتوبر للعام الرابع والعشرون من الألفية الثانية.  وقتٌ مستقطع من تيّار الحياة بحثا عن شَذَراتٍ من السّكينة ووضوح الرؤية، وفي محاولة لاستكشاف عادات تَنقل البِذرة معنا للوطن، تُداري شَمعة البصيرة في وجه رِياح المشاغل اليومية والعيش الآلي. 

بيت كاميّا احتلّ مَكانَهُ ضِمن قرية يابانية تقليدية طِوال ثلاث عصور من التاريخ الياباني، وكأن موقعه الجبلي يسمو به وينأى عن مظاهر التحديثِ والتغيّر، فاحتلّت النار مَركز الكُوخ مُقدّمة الدّفء وطهي الطعام وحتى الإضاءة. نِمنا على الأرض وتشاركنا خِدمة بعضنا ومارسنا بَعض رياضات الجسم والعقل فنشطنا للحركة والقراءة والكتابة بما لا يتأتى ولا يُتاح عادة، وبشكل خاصّ لحظات الصفاء والتأمّل التي تتخلّلها أصوات الغابة وأشعّة الشمسِ الدافئة في حُضن رِياح الخريف المُنعشة. كان الانقطاع عن التقنية مريحا والإحساس بالوقت بعيدا عن الساعات غريبا، يَحمِل اتّساقا مفقودا مع الطبيعة، فيرتاح الوقت من تشريحه لِقِطَعٍ عشوائية صغيرة ليعود مُكتملا في فُصول تميّزت ملامحها وقت المساء والفجر والظهيرة والعصر، بعيدا عن قَلق عدّ الدقائق والخوف من إهدارها. 

  طهَونا طعامنا وفق التقاليد اليابانية واستحضرنا قِيم الإحسان في العمل فاجتهدنا في صيانة الكوخ وترتيبه وِفق سنّة القوم وجميل صُنعِهم، لنتحلّق نهاية اليوم حول حَديثِ الضوء نَتَحاور ونُمارس تقليد الهانسي كاي “حديث المراجعة” لاستخلاص العِبر من أحداث اليوم المُنصرم. الحياة على بصيرة  أو الحياة المُقتصِدة، تَقصّدا في استحضار الهدف فيما نَفعَل واقتصادا في استهلاك الموارِد سعيا نحو البساطة في العيش والتخفّف ممّا يَزدَحِم الحياة ويزيد التكلُفَة المادية والذّهنية، هو نَمطُ العيش الذي نتذوّقه في مُخيم نامان، وطوبى لِمن عَرَف الطريق فَلزِمه.

تَسلّق الجبال أهونُ من تغيير العادات والنفوس والتحدّي الظاهر أيسَرُ من الخفيّ الأَعسر، وعلى هذا المِنوال ارتقينا أعقاب الجَبل المُجاور لكوخنا باتجاه السماء عبر طريقٍ غيرِ مُمهّد، إلا أنه كان في مُجمله أشبهَ بِنزهة وترويح من إلزامات النفس خلال مُمارسات المُخيّم. لم تكن القمّة مُذهلة ولكن المسير كان قيّما ويستحقّ إحتفاء مُصافحة الجبل في تواضع واحترام يليق بمخلوقات الله العظيمة. يَصعَدُ كثيرون الجبال فُرادا ضمن آخرين وينزِلون دائما مجموعة، فالطريق يُصبح أقصر والمشقّة أهون والزادُ أعذب مع الأخوة والأصحاب.

الليلة الأولى وفي لجّة الأحلام التي تداخلت مع صوت المطر الغزير والرعد خارج جدران الكوخ الرقيقة، طغى الخيال فظننت أن السيل سيجرفنا عن الأرضية الخشبية، ليأتي بعد ذلك نهار مشمس جميل كان فرصة لغسيل الملابس وتنشيفها ثم الالتفات لمهامنا اليومية، مع استراق لَحَظات من المُتعة خارج الكوخ. كَما الحياة، لم تَسِر الأمور كما خُطّط لها وتم التعديل وفُق الحاجة، تَفاوَت المشاركين في مجاهدة النفس لتحقيق الأهداف ولعلّ مَن لاقى المشقّة كان أكثر فائدة بمقدار التغيّر الذي حَصل له مُقارنة بحالِه السابقة. على الرغم من تمايُز الشخصيّات والاهتمامات إلاّ أنّ الجهد المبذول في إنتقاء المشاركين انعكس في جو من اللطف والأدب الجمّ داخله مرح رزين. 

انتهى معسكر نامان والنفسُ لم تشفِ ظمأها من معينهِ، علّه يعينها في القادِمِ من الأيام مرشدا لرحلة تعلّم أطول وأكثر

خصوصية

شكرا

الرياض في الرابع من نوفمبر ٢٠٢٤ 

مجنونة


يُطلق على الأشخاص الموهوبين في الزراعة وصف “إبهام أخضر” وللأسف لم أكن ضمنهم أبدا، فكل النباتات التي امتلكتها ماتت بعد فترة قصيرة، ماعدا صبّارة صَبَرت معي مدة استثنائية تخطّت السنة. مع الاستقالة والتفرغ الحالي بدأت أهتم بحديقتي بعد إهمال طويل، ووجدت نبتة استثنائية نجحت بجمال فائق على الرغم من الإهمال الممتدّ. أسمها الأشهر “الجهنمية” وأذكر من طفولتي إسما آخر لها وهو المجنونة

كلا الاسمين يَشِيان بطبيعةٍ غير طبيعية للنبتة يُصادق عليها من عايشها وشاهد السرعة الفائقة لنموها وقدرتها على الانتشار في أماكن تبدو مستحيلة. أزهار الجهنمية جميلة لكنها لا تأتي بسهولة، بل أنها تستعصي أحيانا على من يحاول استعجالها فلا تظهر لمن يسقيها بشكل كافي، فلا تكاد تظهر الأزهار إلا في حال الجفاف فقط، وكأنها تعاقب من يهتم بها أو تحمِل شخصية مازوخية تستلذّ سوء المعاملة 

الظاهرة الجهنمية يمكن تفسيرها بكون النبات يحاول التأقلم مع البيئة المتغيرة بشكل كبير عبر استغلال الفرص وتبني نمط نمو مناسب لكل حال وموسم، فعندما يتوفر الماء يطمئن النبات ويبدأ نمو فروعه وأوراقه ويمتد حجمه، وعندما يبدأ موسم الجفاف ولا يتوفر الماء الكافي لتغذية الحجم الكبير يبدأ النبات في التوقف عن النمو ويبدأ بالإزهار لإنتاج البذور والتي تضمن استمراره في حال اشتد الجفاف وماتت النبتة

أجد في الجهنمية انعكاسا لنفسي التي أزهرت وتألقت لعقود في ظروف صعبة، واليوم أجد في نفسي خفوتا للألوان ورغبة في التركيز على النمو وترسيخ الجذور. كثير من الأصدقاء (مثلي) الذين فرضت عليهم الحياة الصراع فصارعوها ونجحوا لحد بعيد يستحقّ الاحترام، يَستصعبون الاستراحة وعقد سلام مع الحياة، التي لا تدوم على حال. لا أشكّ في كون الصراع والتحدّي جزء من الحياة وضروري للبقاء والازدهار، ولكنه ليس كلّ الحياة. طيلة حياتي شعرت أني في سباق مع الحياة التي تسبقني دائما بخطوة، حياة مؤجلّة انتظر عيشها، باستثناء لحظات متعة مؤقتة 

خلال بِضع السنوات الماضية راودني إحساس بدهشة الطفولة وإني أحاول إعادة فهم الحياة والعالم من حولي، ولربما في ذلك إشارة لرغبتي في العودة لفترة النمو، فترة الطفولة والخيارات المفتوحة، قبل القوالب الجامدة. يُصادق على ذلك تساؤلي الداخلي عن الطريق الذي سأسلكه لاحقا كمصّور  أو كاتب أم أعود للعلم من باب آخر، صدى لسؤال الأطفال “ماذا ستصبح عندما تكبر؟” سأصبح جهنمية 

رحلة أخرى جديدة مثيرة لتعلّم العيش مع النباتات والعناية بها، أتمنى أن تساعدني في التركيز وتعلّم الصبر. لربما مشاهدة النباتات تنمو ببطء وملاحظة تغيّر أحوالها ومحاولة تشكيل مصيرها عبر اختيار سيقان صغيرة لإزالتها وترك أخرى تتحوّل لجذوع قوية، تحمل في طياتها دروس مفيدة؟ يقول علماء النفس أن الاتصال بالطبيعة يعزّز الصحة النفسية، وآمل ذلك. 

شكرا 

الرياض، العاشر من سبتمبر ٢٠٢٤

هبوط غير مفاجيء

كنت أحس بمزاج جيّد ومستقر طوال الأسبوعين أو الثلاثة الماضية وبدا لي أن تغيير أسلوب حياتي ساعدني في مواجهة الاكتئاب، إلا أني كنت أعلم أنه مستتر تحت السطح وليس ببعيد. ذكرت سابقا أن الاكتئاب يستنفذ طاقتي النفسية فأصبح كمن فقد لياقته ويتعب لأبسط مجهود، وهو ما حصل. 

ضمن جلسات العلاج النفسي أقوم برصد وتحليل المواقف التي تسبب هبوط بالمزاج، وحصل معي موقفين الأسبوع الفائت عاد مزاجي بعدها للارتفاع بساعات قليلة، ولكني هذا الصباح أحس بشكل مختلف، أسوأ وأكثر عمقا. أحس بأني تجاوزت طاقتي (أوفر ويلمد) بسبب مشكلتين المفترض أنها بسيطة ويومية. أيضا مع انخفاض مزاجي عادة ما ترتفع حساسيتي وانزعاجي من الآخرين فتحسّست من موقف مع صديق، ما عمّق احساسي بالحزن

في الجلسة الأخيرة بدأت أحسّ بفائدة العلاج النفسي وأصبحَ مُقنعا أكثر. ما شدّ انتباهي على الخصوص هو  كون العلاقة بين المزاج والسلوك قد تأخذ أكثر من اتجاه، وليس بالضرورة أن يكون المزاج هو القائد والمسيّر لحياتي. أعلم جيدا كيف أن انخفاض مزاجي أحيانا يدخلني في دوامة هابطة (سبايرال) بحيث أشعر بالرغبة بالانعزال والذي بدوره يعزز المزاج السيئ ما يدفعني لفعل أشياء أخرى لربما تزيد الوضع سوء

“اتبع الخطّة، لا تتبع المزاج” هي نصيحة المعالج وفِكرتها تكمن في عدم الانسياق وراء المزاج السيء وتركه يقرّر السلوك وإنما محاولة الالتزام بالروتين العادي، بل وحتى تقصّد فعل بعض الأشياء التي تقاوم المزاج السيئ وتجلب البهجة. تذكّرت أني قمت بشيء مشابه العام الماضي عندما لاحظت أن الوجوم استمر معي لليوم التالي من المرور بموقف وأني قد أكون بدأت الانزلاق نحو نوبة اكتئاب، فتوقفت عن العمل (مصدر التوتر) وانشغلت بممارسة التصوير ليومين وقابلت صديقا مقرّبا، ما أظنه ساهم في كسر حلقة الأفكار والمشاعر السلبية. مع ذلك، كلمات المعالج جعلتني أكثر فهما للعلاقة بين المشاعر والسلوك ووجود خيارات للفعل بدلا من “الاستسلام” والذوبان في زاوية الاكتئاب المظلمة “المريحة”. 

الكثير من قطع الغيار حاليا في السيارة والتي لازالت تصدر أصوات وحركات مزعجة، ومع ذلك مررت بجانب الورشة وأكملت الطريق نحو المقهى المفضل من أجل تجربة جميلة وفرصة للتعبير من خلال هذه النافذة

لن تنتهي المشاكل وسيأتي غيرها ومن الأفضل لي التعوّد على وجودها ومحاولة التعامل معها بشكل أفضل. لا تزال روحي مثقلة ونفسيتي هشّة ولكني اليوم عندي ثقة أكثر بقليل حيال قدرتي على مواجهة الاكتئاب بمحاولات ستصيب وتخطئ، ولكن المحاولة على الأقل قد تساعدني في مواجهة شعور العجز القميء والذي يميز الاكتئاب والذي يوصف بأنه انطفاء (شت داون)، واحيانا يكون الانطفاء مغري بالراحة، وهو إغراء جدّ خطير. 

شكرا

الرياض، الخامس من سبتمبر ٢٠٢٤

داخل الغيمة أروم إبصارها

بدأت أكتب لتوضيح التشوّش في أفكاري وربما للتنفيس عن مشاعري بشكل أفضل. في ذهني حضر توثيق التجربة ومشاركتها وربما شَحْذ مهارتي بالكتابة، لكن الأهداف الأخيرة ليست أولوية.  حتى الآن أشعر بالرضى عن التجربة وممتنّ لأحبتي الذين تفاعلوا معها تعاطفا أو وجدوا فيها ما يعكس بعضا من تجربتهم

أشعر بأن صحتي النفسية حاليا أفضل وربما ساعدت الكتابة والمشاركة في ذلك، حيث وجدتني أميل للتحدث عن معاناتي أكثر وأعمق مع الأصدقاء، وأظنّ ذلك ساعدني. ألمس تشكّل جزء جديد من هويتي يتضمّن جوانب قصور (الاكتئاب وتشتّت الانتباه وغيرها) كانت تُداعب خيالي من بعيد وبشكل مسلِّ سابقا ولكنها اليوم أكثر وطأَة وأكثر واقعية، بدأتُ في تقبّلها وأحاول التعايش مع جوانبها السلبية والإيجابية

لا أظنّ أني نجحت في توثيق التجربة بشكل جيد، كون المعاناة حاجزا دون النّظر المتأمّل وحتى التركيز الكافي. يَصِف الغربيون حِجاب الرؤية عند الانغماس بالتجربة بكونه سميكا (ان ذا ثك اوف ات) ويقولون أيضا بأنهم لم يخرجوا من الغابة (نوت أوف اوف ذا وودز) ولا شك أن كثافة الأشجار والأغصان معمية عن المشهد الكامل. ربّما تكون هنالك دوافع نفسية أعمق منعتني من التفصيل أكثر بالتجربة وتحليل أفكاري ومشاعري، وربّما التفسير الأوضح هو الكسل

في جلسة العلاج الأخيرة قُمت بتمرين أسجّل فيه نشاطي اليومي على مدار الساعة مقيّما الأحداث من حيث متعتها والفائدة منها. التجربة مثيرة كونها تجعلني أكثر وعيا بتفاصيل حياتي وتصبّ في مبدأ قصدية الحياة (مايندفلنس)، ولكني لا أفضّل الجانب الآلي فيها متمثلا بتدوين التفاصيل الدقيقة ولا الجانب الكمّي الذي يختزل تجربة العيش في تقييم رَقَمي ضِمن خمس أو عشر خيارات!  أعتقد أن هذا التمرين من المفترض فيه رسم صورة أدقّ عن خارطة المزاج بشكل عام ومتى انخفض والعوامل المؤثرة فيه، ولكن أشكّ بأن لحظة انخفاض لمدّة قصيرة تحمل من المعاناة ما يرجح كفة مزاج جيد لأيام. 

سألني المعالج عمّا أريد الخروج به من العلاج النفسي؟ كان واضحا تركيزه على النتائج “الملموسة” مثل قضاء وقت ممتع مع الأصحاب أو انتظام النوم أو ممارسة مهام محددة، وسقطت كلماته على سطح روحي، كوني أرى معاناتي أعمق من تلك الأعراض التي يأمل “معالجي” إعطائي “مهارات” وأدوات لتحقيقيها. أبحث عن بوصلة ويقدم لي معالجي صندوق عدّة

أعلم أن المعالج ليس منقذا وأن الرحلة بشكل أساس على عاتقي ولكن أشكّ في خطواتي المترددة بين الطرق الكثيرة التي ربما يؤدي كثير منها لأماكن جيّدة. أسعى لفهم نفسي أكثر وكلّ جهد يسهم في ذلك فهو توفيق آمل أن يخفّف المعاناة، حتى وإن لم يكن له أثر فوري. وإن كنت متشككا في نجاعة العلاج أو عدم وضوح اتجاهه إلاّ أن تأثير الأحبة على روحي ودعمهم اللطيف لهو أمر جليّ، أشعر بالامتياز والامتنان على وجودهم في حياتي

شكرا 

الرياض في الثالث من سبتمبر ٢٠٢٤ 

عقل غير جميل


“Life is not a problem to solve, but a reality to be experienced”

لا أعلم إن كانت كلمة “تشويش” عربية أصيلة وكون دلالتها موجودة قبل شيوع المصطلح الانجليزي (كونفيوشن). عندما أفكّر بأن شخصا ما “مشوّش” يخطر في بالي أنه فقد تركيزه للحظة وكانت من قبل رؤيته واضحة للأمور، بينما تجربتي الشخصية لا يسعها مصطلح التشوّش كون حالتي الذهنية بشكل عام يغلب عليها التشتّت وعدم الوضوح

هنالك الكثير من الوسوم والمصطلحات النفسية التي تصف حالات شبيهة مما اختبره شخصيا ويعمّق احساسي بكوني في أفضل الأحوال مختلفا عن “الآخرين”، وفي أسوؤها أعاني من مرض أو قصور جسدي. جزء مهمّ من تصوّري عن شخصيتي ومصدر أساسي لتقدير الذات عندي مصدره ذكائي، والذي تم تعزيزه من قبل آخرين وتجارب عديده. مع ذلك، كثيرا ما أجد نفسي في مواقف ضاغطة ومحرجة بسبب ارتكابي لأخطاء غبية، بمعنى كونها واضحة وبسيطة يمكن تجنّبها بالمنطق السليم وبالحدّ الأقل من الملاحظة. 

كنت أنظر لهذه “الهفوات” كجزء من الغرابة المقبولة للعبقرية وضريبة بسيطة لها ولربما تضفي عليها هالة غموض وجاذبية مثل شعر اينشتاين المنكوش. مع الوقت أدركت بأني لست عبقريا وأن “الهفوات” ليست نادرة وليست بسيطة ولها أثر سلبي وملموس على حياتي اليومية. ومع هذا الإدراك المتأخر بدأت أتساءل عن الدور الذي تلعبه هذه الحالة الذهنية في مشكلة الإكتئاب التي أعايشها من فترة طويلة والتي يبدو أنها تسوء

أحس بأني عقلي مقفل والمفتاح داخله، فالتشتت يمنعني من التفكير بوضوح في المشكلة لفهمها أملا في محاولة التغيير للأفضل، وحتى كتابة هذه الكلمات أجاهد فيها عقلي الذي ينزع للقفز نحو أفكار أخرى غير التي أناقشها حاليا أو يريد العودة لمراجعة الجزئية التي كتبتها مسبقا، أو يفكر في أخذ راحة وتناول كراواسان!  قبل أيام تصفحت بعض الكتب حتى أقرّر الاحتفاظ بها، ولاحظت أني في الصفحات الأولى أخطط على سطور كثيرة وأكتب ملاحظات عميقة، بينما باقي صفحات الكتاب وكأنها لم تمسّ. 

تبدو بعض المواقف مضحكة عند تذكّرها أو رواياتها للأصدقاء وفي مجالس الأهل، لكنها مؤلمة في لحظات معايشتها أو عندما ترعبني إمكانية الإصابة بالخرف المبكر (الزهايمر). أوصلت صديقا للمطار وجلست معه حتى لحق برحلته وعندما عدت للمواقف لم أجد سيارتي! بحثت أكثر من مرة وفي كل الصفوف وعدت من حيث أتيت لأتأكد أني بالمكان الصحيح، بلا فائدة فتيقنت أني لم أطفئ السيارة (حصل سابقا) فسرقت. قضيت نصف ساعة تقريبا “لأكتشف” بعدها أن سيارتي كانت في طابق مختلف. هذا بالإضافة إلى المرات العديدة التي “تختفي” بها الأشياء لأجدها لاحقا أمامي، أو بوابات المطار التي أخطئ فيها وصعوبة قراءة لوحات الطرق

عندي قناعة ليس بسيطة بمعاناتي من “تشتّت الانتباه وفرط الحركة” ولربما خَفَت فرط الحركة خاصة في السنوات الأخيرة إلا أنه كان واضحا في طفولتي التي جَريت فيها أكثر مما مشيت، وحين كنت أمشي كنت أتجنب الخطوط على الأرض وألمس الجدار بجانبي، إضافة لمعاناتي الطويلة مع الرهاب الاجتماعي الذي تأقلمت معه منذ الجامعة. هذه القناعة بمعاناتي من تشتّت الانتباه يرافقها شكوك بتقاطع خبرتي مع حالات أخرى مع التوحد والوسواس القهري، ومن اطلاعي البسيط عبر تجارب الآخرين في شبكة الإنترنت يبدو أن هذه الحالات تتداخل وأحيانا ما توفر بيئة خصبة للاكتئاب

لا أظنّ أن من الحكمة القفز لاستنتاجات والسعي لتشخيص يقيدنا في صناديق صغيرة تضيق على الخبرة الشخصية المتمايزة، هربا من مسؤولية رحلة فهم الذات وإلقاء لتلك التبعية على الآخر المختصّ، الذي ربما يسلك هو أيضا اختصارا آخر عبر تقديم لصقة طبية عاجلة وسطحية تعالج الأعراض بدواء أو مهارات موقفية ولا تتعرف على جذور المشكلة وتسعى نحو تصميم علاجي يناسب الفرد وظروفه وتجربته وشخصيته ومعاناته الخاصة

ملاحظة: عادة ما أكتب تدوينة وأوثق مكان وتاريخ كتابتها، لأعود لنشرها لاحق، لكن يبدو أن حديثي هنا شتّت انتباهي عن ذلك! 

شكرا 

رحلة العلاج تبدأ بعثرة

قبل يومين كانت الجلسة الثالثة لأول تجربة في العلاج النفسي، ومع قصر التجربة إلا أن هنالك ما يستحق الذكر. الجلسة الأولى كانت متوقعة من حيث إرساء القواعد للتعامل واستقبال الشكوى بالتفصيل، مع أخذ معلومات عامة مثل المعلومات الأسرية والحالة الوظيفية والتعليم وطبيعة التديّن. خلال حديثي عن أعراض “الاكتئاب” لاحظت أنه يعتريني انفعال الحزن/الأسى واحس بغصّة مع رغبة غير مفهومة في البكاء عند ذكر بعض “المعلومات” عن الأعراض أو الأحداث التي عايشتها، وعلى الرغم من كوني في ذهنية مستقرّة وفي تركيز على الوصف البارد ومزاج النقاش “العقلاني” مع المعالج إلاّ أني عايشت شعورا أجده مميزا للاكتئاب وهو فقدان التحكّم بنفسي أو حتّى توقع سلوكي وانفعالي أو حتى فهمه!

الجلسة الثانية مختلفة، فبعد حديث روتيني قصير بدأ المعالج بتوجيهي ضمن تمرين لتحليل موقف مررت به مؤخرا في محاولة لفهم طريقة انفعالي في مثل هذه المواقف والأفكار المرتبطة بها. لم أفهم الهدف من التمرين ولم أكن مقتنعا بطريقة اختيار الموقف، وأحسست أني متجه بطريق خاطئ. أرسلت بريد الكتروني للمعالج وضّحت فيه عدم رضاي عن التمرين وأسباب ذلك، مع رغبتي في مزيد من الوضوح عبر معرفة الخطة العلاجية بشكل عام ثمّ رغبتي بأن أفهم الهدف من أي خطوة علاجية واقتنع بها قبل تطبيقها. وحصل ذلك في الجلسة الثالثة والتي طلبت تخصيصها لمناقشة الخطّة العلاجية ومراحلها وأهدافها. كان النقاش جيّد وحاولت تكرار بعض الأسئلة للتأكّد من أني فهمت فعلا وبوضوح الخطّة، وتجنب الإحساس بالضياع بعد اللقاء، كما يحصل معي كثيرا

قرّرت إكمال العلاج على الرغم من تفكيري بتغيير المعالج، لكونه مُقنع أولا وثانيا حتى أتأكّد أني لا أحاول الهرب والتملّص عبر عذر سانح. ما أظنه ساهم في تجربتي الأولى السيئة هو الطبيعة التجارية للعلاج النفسي والذي إضافة لسعيه للربح فإنه يحاول زيادة “إنتاجية” “العمل” بتشذيب كثير من الزوائد الإنسانية التي يُنظر لها كغير ضرورية، مثل معرفة المعالج لي بشكل أفضل أو أخذه وقتا أكثر لشرح طريقته في العلاج والهدف من التدريب والتأكد من كوني مقتنع بما يطلبه مني. ما ضايقني هو ما بدا لي قفزا نحو العلاج قبل فهم الأسباب جيدا، فمثلا هو يعلم أني استقلت من وظيفتي ولم يسألني عن سبب إقدامي على هذا الفعل العظيم! مع تكراره بشكل روتيني (متطلّب تنظيمي) في كلّ جلسة أسئلة عن الأفكار الانتحارية مع إيضاحي له أنها غير موجودة عندي وليست هاجسا

تلقيت رسالة من مُعالجة تفيد بتوفر موعد للعلاج، وأنوي استكشاف خيارات اخرى تطبيقا لمبدأ أهمية وجود رأي طبي ثانً، وأعتقد أنه في حال العلاج النفسي يجب أن يكون هنالك استكشاف لخيارات ثالثة وربما رابعة، كون التوافق بين المعالج والمسترشد أكبر أهميّة منه في العلاج الجسدي. على الرغم من الكبوة المذكورة إلاّ أن الوقت مبكّر لأي استنتاجات ولست أتوقع انفراجة مهمّة في فهم نفسي بوقت قصير، فضلا عن العلاج

منذ بداية سلوك طريق العلاج النفسي وجدت نفسي أكثر تأملا لسلوكي في الماضي، وأكثر انتباها لأفكار القلق وأقل ميلا للانزلاق نحوها أو الاستجابة لها بأفعال تغذيها. إضافة إلى الشعور الجيد بأني أخيرا قررّت طلب المساعدة بعد تجاهل معاناتي لفترة طويلة

شكرا

الرياض، الثالث والعشرون من أغسطس ٢٠٢٤

مُكتئب

الاكتئاب أكثر من حزن، أكثر من كونه حزنٌ ممتدّ وعميق. أزعم بأني عَشت تجارب كثيرة صعبة وتعايشت مع ظروف قاسية جدا وصراعات كثيرة، لكن ما أعايشه الآن تحت مسمى الاكتئاب يبدولي تجربة مختلفة نوعيا. في السابق كنت واعيا بالتحديات وأحس بالألم وحتى الحزن، لكن يبدوا أني كنت أحس بالقدرة على مواجهة تلك الظروف أو إيجاد طريقة للتعامل مع العقبات أو حتى تقبلها، بينما تبدو روحي اليوم متعبة وغير قادرة على مواجهة ظروف أقلّ صعوبة وشدّة مع إحساس بالاستسلام، وكأني رياضي سابق فَقَد لياقته وأعياه المرض حتى عن صعود السلّم! 

من الأحاسيس الجديدة التي رافقت الإكتئاب هو إحساسي بفقدان التحكّم، على الظروف وعلى سلوكي وحتى جسدي! أصبحت وكأني مُتفرج على نفسي وأنا أصبح أقلّ حماسة وتجاوبا وبطئا في الحركة وأكثر صمتا ووجوما، دون أن أفكّر بهذه الأشياء وكأنها “تحصل لي” كما تحصل لأي شخص آخر غريب عني. وفي شدّة الاكتئاب حصلت ردّات فعل لجسدي غريبة وأشبه بالمرض، فإضافة للسهر والتوتر، وجدت أرتفاعا في حرارة جسدي وتنمّل لا علاقة لها بأي عدوى. حتى في الأيام “العادية” تدهمني غصّة غريبة تفاجئني كثيرا ودون مبرّر 

بدأت رحلة العلاج الأسبوع الماضي ما جعلني أتعمّق في تحليل سيرتي مع الاكتئاب فوجدت أن هنالك مستويان من المزاج المنخفض، أحدهما مستقرّ ويلازمني أغلب الوقت أحسَب أنه خفيّ ولكنّه ظاهر للمقرّبين ممّن يعرفوني لمّدة طويلة، والمستوى الآخر شديد يأتي على نوبات عنيفة وغالبا يكون مرتبط بحدَثِ سلبي يُدخلني في دوّامة الانسحاب ويُغرقني في الأسى الذي يتداعى من نواحٍ عدّة، إضافة للسبب الرئيس. وجدت أيضا أن تلك “النوبات” تحدث بشكل شِبه سنوي في موسم محدّد وترتبط بأسباب متشابهة

يؤلمني أن ألمي يؤلم الأحبّة من حولي، وعندما يحاولون المساعدة ولا يجدون نتيجة أو تجاوبا مني فإن ذلك يزيد من ألمي. أُلاحظ رغبتهم المتفهّمة لمعاناتي وعدم الرغبة في اقتحام عالمي خاصة عندما أبدو منسحبا وألاحظ كيف يحاولون التصرّف بشكل طبيعي وكأني لا أعاني من شيء، ولاشكّ أن في ذلك لُطفا جمّا أقدّره وأتمنّى صادقا بأنها سحابة صيف مؤقتة، ولكني أعلم بأنه موسم مُظلم ليس بقصير. أحيانا أودّ أن يتقبّل من حولي حقيقة كوني سقيما وأني سأخرج من الجهة الأخرى حين أخرج شخصا مختلفا، فلا أحد مسؤول عن سقمي وشفائي، مع حاجتي العميقة للتقبّل والرفقة. 

 الاحساس بفقدان التحكّم يزيد من غرسة الشكّ بأن للاكتئاب جانبا عضويا، أو على الأقل يفتح المجال للتدخل الدوائي. هل من الحكمة أخذ الطريق الأسهل وتجربة الأدوية؟ هل أنا أسلك طريقا طويلا متعبا لي والآخرين مع معاناة إضافية غير مبرّرة بالاعتماد فقط على العلاج السلوكي والتأمل والرياضات النفسية؟

هل هو فَصل غائم في الحياة ربما يجب أن أتقبّله كما تقبّلت الفُصول المشرقة؟ صِدقا أشعر بالأمل وحبّ للحياة على الرغم من المزاج المعتم، بما يشبه مخاض نفسي غير منطقي ولا واضح المعالم، ربما لعوامل ترسّبت في نفسي لمدّة طويلة وحان استحقاق مواجهتها؟ 

ما أعلمه أنّ الوقت لازال الوقت مبكرا على الإجابات

شكرا 

الرياض، الخامس عشر من أغسطس ٢٠٢٤