إقليم ناغانو، محافظة إيدا، هجرة أوديرا، بيت كاميّا. عُنوان كبسولة الزمن التي عشناها في العشر الأواخر من أكتوبر للعام الرابع والعشرون من الألفية الثانية. وقتٌ مستقطع من تيّار الحياة بحثا عن شَذَراتٍ من السّكينة ووضوح الرؤية، وفي محاولة لاستكشاف عادات تَنقل البِذرة معنا للوطن، تُداري شَمعة البصيرة في وجه رِياح المشاغل اليومية والعيش الآلي.
بيت كاميّا احتلّ مَكانَهُ ضِمن قرية يابانية تقليدية طِوال ثلاث عصور من التاريخ الياباني، وكأن موقعه الجبلي يسمو به وينأى عن مظاهر التحديثِ والتغيّر، فاحتلّت النار مَركز الكُوخ مُقدّمة الدّفء وطهي الطعام وحتى الإضاءة. نِمنا على الأرض وتشاركنا خِدمة بعضنا ومارسنا بَعض رياضات الجسم والعقل فنشطنا للحركة والقراءة والكتابة بما لا يتأتى ولا يُتاح عادة، وبشكل خاصّ لحظات الصفاء والتأمّل التي تتخلّلها أصوات الغابة وأشعّة الشمسِ الدافئة في حُضن رِياح الخريف المُنعشة. كان الانقطاع عن التقنية مريحا والإحساس بالوقت بعيدا عن الساعات غريبا، يَحمِل اتّساقا مفقودا مع الطبيعة، فيرتاح الوقت من تشريحه لِقِطَعٍ عشوائية صغيرة ليعود مُكتملا في فُصول تميّزت ملامحها وقت المساء والفجر والظهيرة والعصر، بعيدا عن قَلق عدّ الدقائق والخوف من إهدارها.
طهَونا طعامنا وفق التقاليد اليابانية واستحضرنا قِيم الإحسان في العمل فاجتهدنا في صيانة الكوخ وترتيبه وِفق سنّة القوم وجميل صُنعِهم، لنتحلّق نهاية اليوم حول حَديثِ الضوء نَتَحاور ونُمارس تقليد الهانسي كاي “حديث المراجعة” لاستخلاص العِبر من أحداث اليوم المُنصرم. الحياة على بصيرة أو الحياة المُقتصِدة، تَقصّدا في استحضار الهدف فيما نَفعَل واقتصادا في استهلاك الموارِد سعيا نحو البساطة في العيش والتخفّف ممّا يَزدَحِم الحياة ويزيد التكلُفَة المادية والذّهنية، هو نَمطُ العيش الذي نتذوّقه في مُخيم نامان، وطوبى لِمن عَرَف الطريق فَلزِمه.
تَسلّق الجبال أهونُ من تغيير العادات والنفوس والتحدّي الظاهر أيسَرُ من الخفيّ الأَعسر، وعلى هذا المِنوال ارتقينا أعقاب الجَبل المُجاور لكوخنا باتجاه السماء عبر طريقٍ غيرِ مُمهّد، إلا أنه كان في مُجمله أشبهَ بِنزهة وترويح من إلزامات النفس خلال مُمارسات المُخيّم. لم تكن القمّة مُذهلة ولكن المسير كان قيّما ويستحقّ إحتفاء مُصافحة الجبل في تواضع واحترام يليق بمخلوقات الله العظيمة. يَصعَدُ كثيرون الجبال فُرادا ضمن آخرين وينزِلون دائما مجموعة، فالطريق يُصبح أقصر والمشقّة أهون والزادُ أعذب مع الأخوة والأصحاب.
الليلة الأولى وفي لجّة الأحلام التي تداخلت مع صوت المطر الغزير والرعد خارج جدران الكوخ الرقيقة، طغى الخيال فظننت أن السيل سيجرفنا عن الأرضية الخشبية، ليأتي بعد ذلك نهار مشمس جميل كان فرصة لغسيل الملابس وتنشيفها ثم الالتفات لمهامنا اليومية، مع استراق لَحَظات من المُتعة خارج الكوخ. كَما الحياة، لم تَسِر الأمور كما خُطّط لها وتم التعديل وفُق الحاجة، تَفاوَت المشاركين في مجاهدة النفس لتحقيق الأهداف ولعلّ مَن لاقى المشقّة كان أكثر فائدة بمقدار التغيّر الذي حَصل له مُقارنة بحالِه السابقة. على الرغم من تمايُز الشخصيّات والاهتمامات إلاّ أنّ الجهد المبذول في إنتقاء المشاركين انعكس في جو من اللطف والأدب الجمّ داخله مرح رزين.
انتهى معسكر نامان والنفسُ لم تشفِ ظمأها من معينهِ، علّه يعينها في القادِمِ من الأيام مرشدا لرحلة تعلّم أطول وأكثر
خصوصية
شكرا
الرياض في الرابع من نوفمبر ٢٠٢٤