يُطلق على الأشخاص الموهوبين في الزراعة وصف “إبهام أخضر” وللأسف لم أكن ضمنهم أبدا، فكل النباتات التي امتلكتها ماتت بعد فترة قصيرة، ماعدا صبّارة صَبَرت معي مدة استثنائية تخطّت السنة. مع الاستقالة والتفرغ الحالي بدأت أهتم بحديقتي بعد إهمال طويل، ووجدت نبتة استثنائية نجحت بجمال فائق على الرغم من الإهمال الممتدّ. أسمها الأشهر “الجهنمية” وأذكر من طفولتي إسما آخر لها وهو المجنونة
كلا الاسمين يَشِيان بطبيعةٍ غير طبيعية للنبتة يُصادق عليها من عايشها وشاهد السرعة الفائقة لنموها وقدرتها على الانتشار في أماكن تبدو مستحيلة. أزهار الجهنمية جميلة لكنها لا تأتي بسهولة، بل أنها تستعصي أحيانا على من يحاول استعجالها فلا تظهر لمن يسقيها بشكل كافي، فلا تكاد تظهر الأزهار إلا في حال الجفاف فقط، وكأنها تعاقب من يهتم بها أو تحمِل شخصية مازوخية تستلذّ سوء المعاملة
الظاهرة الجهنمية يمكن تفسيرها بكون النبات يحاول التأقلم مع البيئة المتغيرة بشكل كبير عبر استغلال الفرص وتبني نمط نمو مناسب لكل حال وموسم، فعندما يتوفر الماء يطمئن النبات ويبدأ نمو فروعه وأوراقه ويمتد حجمه، وعندما يبدأ موسم الجفاف ولا يتوفر الماء الكافي لتغذية الحجم الكبير يبدأ النبات في التوقف عن النمو ويبدأ بالإزهار لإنتاج البذور والتي تضمن استمراره في حال اشتد الجفاف وماتت النبتة
أجد في الجهنمية انعكاسا لنفسي التي أزهرت وتألقت لعقود في ظروف صعبة، واليوم أجد في نفسي خفوتا للألوان ورغبة في التركيز على النمو وترسيخ الجذور. كثير من الأصدقاء (مثلي) الذين فرضت عليهم الحياة الصراع فصارعوها ونجحوا لحد بعيد يستحقّ الاحترام، يَستصعبون الاستراحة وعقد سلام مع الحياة، التي لا تدوم على حال. لا أشكّ في كون الصراع والتحدّي جزء من الحياة وضروري للبقاء والازدهار، ولكنه ليس كلّ الحياة. طيلة حياتي شعرت أني في سباق مع الحياة التي تسبقني دائما بخطوة، حياة مؤجلّة انتظر عيشها، باستثناء لحظات متعة مؤقتة
خلال بِضع السنوات الماضية راودني إحساس بدهشة الطفولة وإني أحاول إعادة فهم الحياة والعالم من حولي، ولربما في ذلك إشارة لرغبتي في العودة لفترة النمو، فترة الطفولة والخيارات المفتوحة، قبل القوالب الجامدة. يُصادق على ذلك تساؤلي الداخلي عن الطريق الذي سأسلكه لاحقا كمصّور أو كاتب أم أعود للعلم من باب آخر، صدى لسؤال الأطفال “ماذا ستصبح عندما تكبر؟” سأصبح جهنمية
رحلة أخرى جديدة مثيرة لتعلّم العيش مع النباتات والعناية بها، أتمنى أن تساعدني في التركيز وتعلّم الصبر. لربما مشاهدة النباتات تنمو ببطء وملاحظة تغيّر أحوالها ومحاولة تشكيل مصيرها عبر اختيار سيقان صغيرة لإزالتها وترك أخرى تتحوّل لجذوع قوية، تحمل في طياتها دروس مفيدة؟ يقول علماء النفس أن الاتصال بالطبيعة يعزّز الصحة النفسية، وآمل ذلك.
شكرا
الرياض، العاشر من سبتمبر ٢٠٢٤