١٣

لطالما تخيلت النهايات حاسمة! ربما بتأثير من الميل العربي للدراما؟ لطالما انتظرت نهاية أي حدث أو قصّة أو علاقة كنقطة واضحة ومحدده، فاصلة بين ما قبلها وبعدها معلنة مراحل مختلفة جذريا. ويبدوا أن هذا التصّور مريح كونه يَعِد بتغيّر الأحوال ما يبعث الأمل، وحتى في حال التغيير للأسوء فإن النهاية الحاسمة ربما تكون مريحة في كونها تقطع باب الرجاء الذي يدخل منه القلق والكثير من الاحتمالات، ولست صديقا للتوتر وإن لازمني معظم حياتي. 

في سنواتي الأخيرة بدأت أزيد من مساحة التأمّل والنظر والتفكّر (الانعكاس) في حياتي، وكان أحد النتائج التي تعلمتها عن نفسي أن النهايات لم تأت حاسمة كما كنت أتخيّل، وإنما عادة ما كانت طويلة ممتدّة وتدريجية! صحيح أني غيّرت تخصصّي بضربة قاصمة ولحظة حاسمة، ولكن أغلب أحداث حياتي الرئيسة دَرجت بها أيامي على مراحل ووقت ليس بهيّن، مثل حصولي على الوظيفة والبعثة التي تعسّرت والزواج الذي تأخّر لسنوات والتخرّج الذي مرّ بأكثر من عنق لزجاجة واحدة. في كلّ مرّة كنت آمل بانبلاج الفجر وفرحة تأتي دفعة واحدة، لأجد سلسلة من الانفراجات الصغيرة مخلوطة أحيانا بنهايات مسدودة وتعديل بالمسار مع تنازلات، ما جعلني أصل لنهاية النفق مُتعبا ولست مزاج مثالي للاحتفال

اليوم هو التاريخ الرسمي لانتهاء علاقتي بعملي، مع وجود بعض الإجراءات الروتينية العالقة لإخلاء الطرف! قررّت ترك العمل قبل أربع سنوات عندما رسخت قناعة بكوني في مكان غير مناسب. في مرحلة سابقة تقدّمت بإجازة بدون راتب، ثم عُدت محاولا التأقلم، ثم عاد الاحتراق الوظيفي وبدأت البحث عن بدائل، ثم قررت الإستقالة دون وظيفة. قدّمت الاستقالة في أبريل، وكانت خطوة كبيرة مهنيا وماليا ونفسيا، وبدأ سيل المناشدات من الزملاء أملا بالرجوع عن قراري. بعد شهر من المحاولات اقتنعوا بكوني قضية خاسرة وتمّ قبول الاستقالة. بدأت مرحلة تسيير أمور العمل شهرين إضافيين، ثم انتظار الإجراءات الإدارية حتى صدور قبول الاستقالة، واليوم هو اليوم الذي تكون فيه استقالتي رسمية! ستكون هنالك عودة لإكمال إجراءات إخلاء الطرف وأخرى لاستلام المستحقات، ومن يعلم ماذا أيضا؟

على الرغم من التدّرج في مغادرتي للعمل، إلا أني أحسّ بأنها علامة فارقة، آمل أن تكون في اتجاه ايجابي. مشاعري مختلطة تجاه عملي الذي شكّل خيبة كبيرة وكان مصدرا للاحباط والتوتر خلال السنين الستّ الماضية، لكّنه أيضا كان البوابة التي مررت عبرها لتجارب عظيمة أعادت تشكيل حياتي وتعرّفت فيه على أصدقاء أعزاء أعدّهم ضمن أسرتي وأحنّ إلى كاسات الشاي والقهوة في دفء جلساتهم الجميلة 

أسعى الآن إلى نوع جديد من العمل مختلف نوعيا عن السابق، عمل يخاطب الروح أكثر، نافذة على مجتمع جديد من أرواح نبيلة وجميلة تلهمني أن أكون إنسانا أفضل وربّما فنانا؟

شكرا

الرياض، الثالث عشر من أغسطس ٢٠٢٤

لحظة وجودية

اهتّم لصغائر الأمور

مع نهاية البعثة والرجوع للوطن حضرت في ذهني فكرة جديدة، بسيطة لكنها جسيمة! مع الإحساس بأني على أعتاب طريق جديد في الحياة، بدأت أدرك أن أبسط قرارات الحياة اليومية يمكن أن تحدد مصيري، فطريقة كلامي مع غريب أو لقائي شخص صدفة أو حضور فعالية عامة، قد تقود لسلسلة أحداث ذات أثر كبير على حياتي. هذا الانتباه الجديد مثير للاهتمام كونه يفتح أبواب الاحتمالات، ويُوقظ بعضا من القلق، صديقي القديم. لا أزعم أن هذا الوعي حسّن حياتي أو إدراكي لكثير من المواقف التي تضمنت لحظات وجودية واضحة أو أعطاني المزيد من التحكّم بمصيري! وأظنّ سبب ذلك الرئيس هو عشوائية البيئة  

تختلف هذه النظرة عمّا عهدته معظم حياتي سواء إيمانا بالقدر أو تركيزا على الأمور الكبيرة في الحياة اتباعا لنصيحة “لا تهتم لصغائر الأمور”، فكانت لدي رؤية واضحة عن التخصص والوظيفة وتصور جيد لطريقة زواجي وأسلوب حياتي العام، والباقي قطع من اللغز ستسقط في محلها بجانب القطع الأكبر التي أوضحت ملامح المشهد. أمّا الآن، فهذا الإدراك يقود إلى استحالة التنبؤ وإحساس بالمسؤولية متنامٍ على كلّ قرار وتفصيل صغير، وإدراك بأن نتيجة هذه القرارات الصغيرة ومفترقات الطرق فإني أنا أيضا أتغيّر مع كلّ منها، ولو قليلا، لأساهم بصنع نفسي للأفضل و الأسوء

مثال تأثير اللحظات الوجودية هو زواجي، حيث ظننت سابقا أنّ الأهمّ هو التوافق فحرصت على تحقيقه ونجحت في ذلك لأكتشف لاحقا أن هنالك ماهو أهم من التوافق في العلاقات، وهو بناء العلاقة على مدى سنين من لبنات التجارب، فالتوافق ماهو إلا مجّرد إمكانية (مهمّة) وشرط، ولكنّ حقيقة العلاقة هي التجارب الفعلية التي نخوضها ومدى ايجابيتها وكيف نُعامل بعضنا أثناء الرحلة، التي لا تتحدد وجهتها قبل الإنطلاق وإنما أثناء الطريق، وكما قيل “الحياة رحلة وليست وجهة”، وزاد بعضهم أن الأهمّ هي الرفقة!  ومثال آخر هو فرصة وظيفية مميزة تيّسرت لي بشكل غير متوقع، عبر نشر مراجعة لكتاب في موقع عام

أزعم بأن هذا المنظور يتطلّب شجاعة بتحمل مسؤولية الكثير ممّا “يحصل لي” مع الإقرار بأن تلك المسؤلية لا تُغفل أثر البيئة والظروف المحيطة، ولكن لا أقل من تحمّل مسؤوليتي الفردية ضِمن نطاق الظروف الخارجة عن إرادتي. وأزعم أيضا بأن تلك الجرأة في مواجهة عشوائية الحياة وعدم قدرتي على التنبأ بها تتطلب تواضعا وانكسارا ضروريا، وإدراكا بأن الحياة أكبر من غروري الساعي للتحكّم بها، والحاجة لتقبل النقص في ذاتي وضعفي في مواجهة تلك الظروف، لربما تقبلا دون شروط كما يصفه حُكماء الشفاء النفسي

ربما توّلد اللحظة الوجودية واحتمالاتها اللامتناهية إحساسا بعدم اليقين، لكنها ليست نزعة عَدَميّة بقدر ماهي نزعة لمعرفة مكاننا في العالم والمسؤولية التي تأتي معه، ومحاولة الاستفادة من وجودنا القصير في الحياة، كما هي لا كما يصرّ غرورنا على تصويرها

شكرا 

الرياض، التاسع من أغسطس ٢٠٢٤

هباءة

“وتحسَبُ أنّك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر”

أثناء رحلة مسبار فويجر في المجموعة الشمسية، طَلَب كارل ساغان أن يُوجّه المشهد نحو الأرض للمرة الأخيرة قبل أن تختفي، ومن تلك المسافة البعيدة ووسط الأجرام الأكبر والأقرب، بدا كوكبنا نقطة باهتة لا تكاد تذكر، صاغ حولها قطعة فنية جميلة وفلسفية عميقة بعنوان ” النقطة الزرقاء الباهتة” توضح تفاهة أحداث التاريخ البشري العظيمة حينما توضع في إطار الكون الواسع 

لا أظنّ كوني الوحيد الذي قضى طفولته يحلم بتغيير العالم وتحقيق الإنجازات العِظام، ولربما كانت جرعة النرجسية أعلى عندي فاعتقدت امتلاكي قدرات خارقة بتأثير القصص المصورة التي تابعتها كثيرا. وكما حصل مع “القدرة على الطيران” بدأت تتساقط هذه الأوهام على الطريق، إلاّ أن الغرور والأنا المتضخمّة (ايغو) يبدو أنه لازمني طويلا وأفسد الكثير. 

من كتاب النصوص في المرحلة الابتدائية أذكر مقطعا يقول “أن تخطئ في تقدير نفسك متعاليا خير من أن تضع نفسك دون قدرها” وأتفهّم هذا المنطق الذي يركّز على الوظيفة الرئيسة للأنا وهي خلق الدافع للإنجاز، ولكني أرى أيضا وبوضوح مخاطر الغرور من باب “رحم الله امرئ عرف قدر نفسه”. أعلم جيدا أن كثيرا من “انجازاتي” الشخصية التي لها فضل تحسين ظروف حياتي كان ورائها الغرور (ايغو) ولكني أشكّ بأني لو حجّمت هذا الغرور أبكر لربما كنت أكثر رضى مع إنجاز الكثير؟ أثناء حوار البارحة مع صديق، اتضح لي أن أول ثلمة في جدار نرجسيتي جاءت مع الحبّ! عندما أحببت انتقل محور الكون عني لأول مرة، وبدأت أحاول فهم منظور الآخر والنظر لنفسي عبر عيونه، وبدأ تآكل مستحقّ لوهم التميّز. الضربة القاضية جاءت في مرحلة الدكتوراة التي طحنت ما تبقى من شذرات الغرور، للحدّ الذي تمنيّت معه أن أكون “مثل الآخرين” حولي

إلاّ من رحم ربي، كلّنا سيعبر الحياة دون أن يترك أثرا في جدار الإنسانية، وتقبّلت أني لن أفوز بجائزة نوبل، وأحاول الآن عيش حياة عادية ولكنها جيدة. حتّى لو تيسرت لي ظروف مسيرة الحياة المميزة والعظيمة، لربما كان في ذلك في غير مصلحتي الشخصية، بتجيير حياتي (القصيرة) لخدمة “المجتمع” عبر طموحات غُرست في ذهني دون تأمل أو قناعة؟ ولربما أدركت ذلك متأخرا بعد فوات الأوان، منتصف السبعين مقارنة بمنتصف الأربعين

كوني مجرد هباءة صغيرة وعابرة على مقياس الحياة وأن أصبح نكرة لا يعرفني سوى المحيطين بي، ليس أمرا سيئا! فعالمي الخاص وكيف عِشته ومع من؟ أهمّ من القلق حول صورتي عند الغرباء، خاصة بعد مغادرتي للعالم! إدراك قِصَر الحياة والتخلي عن أوهام العظمة ليس بالضرورة بؤسا وعجزا، بل أجدها تفتح لي نافذة لعوالم ممكنة من العيش الفاضل البسيط المتحرر من وصفات الآخرين، التي ربما لاتناسبني 

ومع رحلة الاستكشاف الداخلي، أجدني مفتونا أكثر من ذي قبل بالأفراد من حولي وعوالمهم الجميلة، التي لطالما أعماني الغرور عنها! أجدني أرغب بالصحبة و مشاركة الخبرات، وأكون مع أصدقائي،  كنزي الأثمن

شكرا

الخبر، الثامن من أغسطس ٢٠٢٤

عيش اللحظة

خططت لحياتي الحالية وأخطط للقادم منها، فتبدو الحياة كرحلة لن تبدأ 

تجذبني هذه الفلسفة كونها تفتح نافذة لهروب القلق الذي يملئني حول الخيارات الكثيرة جدا واحتمالات أن أخطئ كثيرا، كما القلق من أحداث الماضي وشعور الأسى من أخطائي خاصة تلك التي بالأمكان تجنبها. بالإضافة للحرية من عبء القلق الملازم لشخصيتي، يعدني منهج عيش اللحظة بحياة أكثر ثراء بالخبرة الشخصية والاستمتاع بتفاصيل الحياة التي نغفل عنها عندما يهرب العقل نحو الماضي والمستقبل وشاشة الهاتف، فتصبح الأشياء العادية مصدرا للرضى أو حتى المتعة مثل الإحساس بنسمة باردة أو تأمل أوراق خضراء أو سماع ضحكة طفل وملاحظة ابتسامته من بعيد. نعم، قول ذلك سهل ولكن تطبيقه صعب! لكن آمل أن التمرين يمكن أن يرسخ مثل هذه العادات؟  حتى وإن فشلت في التركيز على اللحظة الراهنة كراهب بوذي، تظلّ فكرة تقبل الماضي وإطلاقه كعصفور هدف عظيم كما هو هدف التحرّر من القلق حول المستقبل، وأعتقد أن حكماء كُثر وجدوا في ذلك وسيلة للحياة الهانئة بأن يكون الإنسان أفضل عندما يمارس هذه الفضيلة، التخللّي! 

يأبى عقلي الناقد إلا أن يلج في ثغرات أي فكرة مهمها كانت جاذبة، فأحاول تقييم مدى واقعية دعوى عيش اللحظة؟ إن أخذنا الدعوى على ظاهرها ستبدو فكرة تجاهل الماضي والمستقبل تماما فكرة سيئة، كونه لا يوجد إنسان لا يحتاج التأمل في أفعاله والأحداث من حوله ومحاولة الحكم عليها والتعلّم منها ومن ثم القفز للمستقبل في محاولة للتنبؤ في الأحداث القادمة وخيارات التعامل معها. وفي نسخة متطرفة من تطبيق عيش اللحظة سيكون الفرد عاجزا عن ربط أي مهام حصلت اليوم الماضي بما سيحصل غدا ويفاجئ بعدم وجود طعام بالثلاجة وانقطاع الكهرباء لعدم تسديد الفاتورة.  أعلم أن دفع أي فكرة نحو التطرّف يفسدها مهما كانت مفيدة، ولكن مشكلتي هنا هي الحد الفاصل. كمّ التفكير  خارج اللحظة الذي أحتاجه للبقاء ضمن الحياة والمجتمع؟ وإلى أي مدى أستطيع تحمّل رفاهية عيش اللحظة ضمن حياتي اليومية، خاصة عندما تكون هنالك مطالب خارجية من بيئة العمل والعلاقات الاجتماعية؟  ربما ليست هنالك وصفة شاملة تسع الجميع، بحيث يكون التجريب هو المقياس الفردي للتجربة الشخصية؟ 

عيش اللحظة قد يتطلب شجاعة، شجاعة مواجهة الموقف والانتباه لتفاصيله، حتى ما لا يعجبك منها. البارحة عملت على مهمة كنت أتجنبها لشهور بسبب القلق الذي تثيره عندي، وطبعا التجنب زاد الوضع سوءا. قررّت مواجهة المهمة بهدوء وصبر وتحويلها فرصة للتأمل كون المهمة رتيبة. كثيرا ما نُشتّت انتباهنا عن مواقف عمدا وخوفا للهروب من مواجهتها، كما ألجأ لهاتفي كلما كنت في موقف اجتماعي لايعجبني، بدلا من التأمل فيه ومحاولة فهم مشاعري حوله. كما يقول المتأملون أن تلاحظ الموقف كما هو لا أن تسعى للحكم عليه، يجعل ذهنك أكثر صفاء ويشحذ ملاحظتك بعيدا عن غيوم الأفكار الواجمة التي تأخذك بعيدا عن الموقف، مثلما يحصل عندما ندخل في نقاش، وبدلا من سماع المُخالف ومحاولة تفهّم موقفه، نفكّر في تجهيز الرد ولا ننبه لما قال أصلا! 

أسمع تزايد الدعوات لعيش اللحظة في ردّة فعل على بيئة تزداد كلّ يوم في مقدرتها على سرقة انتباهنا وتشتيته. متأكد أن هنالك من يستطيع التأمل والممارسة وإن كان في خضم التزامات العمل والعلاقات والهوايات، ولكن يصعب علي ذلك. أسعى للتمرن بطيئا في هذه المهارة مستغلا تفرغي الحالي ودعم زوجتي وأصدقائي، آملا في تكوين هذه العادة لنقلها معي عندما أعود لخضم الحياة المعتاد، فأعود أكثر وعيا وأكثر تحررا من قيود الماضي والمستقبل، الوهمية والقاسية جدا. 

شكرا 

الرياض، السادس من أغسطس ٢٠٢٤

موسوم

لا ينفك الإنسان عن أوصافه، ولا تنفك تلك الأوصاف عن التأثير فيه

بسبب الخبرة الشخصية وأيضا بحكم التخصص، أنا واعٍ بتأثير الوسوم على الإنسان وأستطيع أن أعدد مجموعة منها أثّرت بي إيجابا وسلبا، إلاّ أني وحتى الآن لا أظن أن أي وسما وصفة قد حدّدت مصيري أو نظرتي لنفسي، بشكل جذري على الأقل. 

في أفقي القريب تلوح وسوم (ليبل) ربما يكون لها وطء مختلف على روحي ولربما مصيري (بالمعنى العام)، يبدو أنها مختلفة عمّا سبقها في كونها شخصية جدا، بينما الوسوم السابقة كانت غالبا اجتماعية، تفترض انتمائي لفئة ما، بينما لا يهمني هذا النوع من الافتراضات كثيرا حتى وإن ترافق مع تكلفة ليست يسيرة. بدوي، خليجي، رجل، أكاديمي، وغيرها من أوصاف لم تلامسني بعمق يعيد تعريف نظرتي لنفسي مثل مكتئب، مضطرب، مريض نفسي أو مصاب بتشتت الانتباه وفرط الحركة أو ربما حتى التوحّد! 

أحد الجوانب المخيفة في الوسوم النفسية هو كونها خفيّة، فلا أحد يجادل في كوني من خلفية بدوية لكني أنا وعلى الرغم من المخزون الكبير من المواقف المتنوعة والذكريات الواضحة عن نفسي، أجدني أتذبذب بين إحساسي الواضح أحيانا بمعاناتي من مشكلة نفسية واختلاف سلوكي جذريا عن التيار العام من البشر “الطبيعين”، وبين إحساسي أحايين أخرى أني – وعلى الأقل بعد الثلاثين- شخص يحظى بقدر عالٍ من السواء النفسي لا يتحصل لكثيرين، يطلب بعضهم مني النصيحة والتوجيه! 

جانب آخر أخشاه من وسوم النفس هو التشخيص. أن أوصف بما ليس بي ولكني أصدقه واستدخله كجزء من هوية جديدة وابتدأ التصرف بناء عليها، فأكون حبست نفسي في قالب ضيق يحرمني من خيارات وتجارب قيمة في الحياة.

كما أخشى في وسم النفس جانبه المادي الأحيائي (بيولوجي) الذي قد يكشف أن هنالك علّة أصيلة في تكويني الجسدي بما يشبه الإعاقة، فيحيلني إنسانا ناقصا يحتاج المساعدة، ولربما ينتقص أيضا من أهليّتي ويدخلني (والآخرين) الشكّ في قراراتي ويحيلني للاعتماد على الآخرين، عبئا عليهم وضعفا لم اعتده! 

في عالم مثالي لأحببت أن أعالج ذاتي وروحي بنفسي، عبر القراءة في تجارب الآخرين والتأمل والرياضات الروحية، وفي سيرتي الذاتية ما يشفع لذلك من تغيّر كبير في شخصيتي بعد المراهقة. لكن، يبدو أن هنالك حدوداً لمساعدة الذات وانكساراٍ ضرورياً للأنا يستجدي طلب مساعدة الآخر المتخصص، وهنا عندي آمل أن يسلك شفائي طريقا يتجنب الأدوية ما أمكن تجنبا لشعور العجز الذي يستثيره فقدان التحكم بجسدك المكسور والمحتاج لمادة تصلحه، بالإضافة لخطر الآثار السلبية للدواء. 

أوؤمن أني كيان دائم التغيير بوسوم تأتي وتروح، وأجد في نفسي سكينة على الرغم من الخوف، وتقبلا لما يأتي ورغبة عامّة في التخلّي عمّا أنا عليه، آملا في النمو لشخص أفضل، أكثر حكمة وفهما لنفسي.

 

شكرا 

الرياض، الخامس من أغسطس ٢٠٢٤

 

الاستقالة إلى الفراغ

أن تترك العمل دون الانتقال لوظيفة أخرى أو التقاعد أو العمل الحر. أن تستقيل ثم تذهب لبيتك دون عمل هو أمر يبدو للبعض جنونا ولآخرين حلما يداعبهم، ولكن أزعم أن هنالك قلّة يفهمون ما أمرّ به ويرون ما فعلته كحاجة وأمر ضروري! وأن تُقدم على ذلك في منتصف الأربعين فذلك يعدّ إعلانا مزخرفا بدخولك أزمة منتصف العمر؟

التحقت بعملي عام ٢٠٠٩ واستقلت هذا العام ، وليس لدي خدمة سابقة تؤهلني للتقاعد، ولم أجد وظيفة بديلة مناسبة تخلو من إشكاليات وظيفتي السابقة، فقررت أن أنفك من عجلة التنمية لمدة سنة على الأقل مستعينا بمبلغ وفرته منذ تشكّلت عندي قناعة الهروب، قبل أكثر من ثلاث سنوات. 

نعم أنا محظوظ بتوفّر هذا الخيار لي ووجود فائض مالي وانخفاض الالتزامات المادية، وأعلم أن الكثيرين لا يملكون رفاهية ترك العمل كونهم يعيشون حدّ الكفاف، ما يجعل تركي لوظيفة دخلها أعلى من المتوسط التزاماتها منخفضة أمر ربما يجعل الكثيرين يشعرون بالإهانة كون فرصة وظيفية كهذه غير متاحة أصلا لهم، فضلا عن تركها طوعا! 

لماذا تركت عملي؟

الإجابة البسيطة هي لكونه يتعارض مع قِيمي. وجدت نفسي ضمن مؤسسة ثقافتها الداخلية تطبّعت مع ممارسات لا أقبلها وأغلبية من حولي متصالحين معها. بداية حاولت إحداث تغيير، لكني لم أضيع الكثير على تلك المحاولة كون القضية خاسرة بوضوح. بعد ذلك حاولت أن أقوم بعملي كما أرضاه بغضّ النظر عما يفعل الآخرون فوجدت أنها فكرة ساذجة لتداخل مهامي مع الآخرين ومتطلبات عملي التي يحددونها، وعلى الرغم من محاولة اعتزالي لهم وما يعبدون، إلا أن عزلتي خلقت مشكلتين. الأولى تأنيب الضمير لتجاهلي مهام (لا أرتضيها) ولكنها ضمن مسؤولياتي الوظيفية، والشيئ الثاني الأكثر إيلاما هو التغيير الذي حصل لشخصيتي بتحولي لإنسان لا يعجبني، سلبي ساخر ولاذع لا يهتم لكثير مما يحصل حوله! وفي الفترة الأخيرة لاحظت انخفاضا في أدائي حتى في المهام القليلة التي حصرت تركيزي وجهدي عليها لأهميتها عندي، فكانت القشة التي قصمت ظهر بعيري معلنة احتراق وظيفي نفسي مكتمل الأركان. 

الإجابة الأصعب والأعقد والأكثر حساسية على سؤال سبب ترك العمل تشمل خلطة مشوّشة من إشكاليات هيكلية في جهة العمل وطبيعة الوسط الوظيفي وعدم توافقي مع واقعه، بالإضافة لمعاناتي من اكتئاب جذوره أعمق من العمل، وايضا أزمة وجودية تتمثل بفقدان المعنى واستشعار أن الحياة فعلا قصيرة ومحاولة الاختيار بحكمة كيف سأقضي المتبقي منها. 

سيرتي الشخصي ليست عظيمة أبدا، ولكنها مميزة بمعنى الاختلاف عن المعتاد. المعتاد أن ينشأ شخص في بيت وحارة ومدينة أقصى تغيير يحصل له أن ينتقل بين مدارسها، وربما يتغيير البيت مرة أو مرتين بالعمر. أعتقد أني عشت حيوات عديدة بمعنى أني تنقلت كثيرا منذ طفولتي بين مدن ودول كثيرة ومدارس أكثر من المطلوب وفي كل مرة تكون هنالك علاقات جديدة وبيئة مختلفة وذكريات كأنها من حياة أخرى. لم أختر ذلك ولا أريد أن أصبغ حياتي بإثارة زائفة ففي كثير من الأحيان كان الأمر متعبا، ولكني تعودت على عيش حياة مختلفة كلّ بضع سنين. فلدي حياة ما قبل حرب الخليج وحياة ما بعدها، ثم الحياة الجامعية الأولى الفاشلة المحبطة ثم حياة الجامعة الثانية المثيرة القصيرة الناجحة، ثم الابتعاث الأول في دولة ثم الابتعاث الثاني في دولة أخرى، ثم العودة للرياض “للاستقرار”، والآن افتح فصلا جديدا كما يقول معشر القراء “لأن حياة واحدة لا تكفي”. 

لا أعلم ما سأفعل الآن سوى أني أحب التصوير وأجيده وأني سأكتب كما أفعل الآن تدوينا ولربما أصنع كتابا.  لا رؤية واضحة لما سيحصل وأنا متصالح مع مفاجئات الحياة لكني أخشى تقلب مزاجي ووطأة الاكتئاب، وعليه أنوى طلب التشخيص والعلاج، ابتداء من هذا الاسبوع. 

شكرا

 

الرياض، الثالث من أغسطس ٢٠٢٤