أعتقد أن طفولتي كانت سعيدة، وإن شابَها كثير من الآلام الجسدية. كانو يردّدون في المدرسة “العقل السليم في الجسم السليم” وأردّد معهم، على الرّغم من كوني شاهدا على خطأ تلك المقولة، فقد كُنت طِفلا سقيما يَحمل ذِهنا متّقدا وذكاء حادً! لا أتذكر إصابتي بمرض خطير في سنواتي الأولى، والتي ذَكَرت أمي أنه أحالني من طِفل ممتلئ إلى جسد نحيل بشكل استثنائي، لازمني حتى الجامعة. ولكني أتذكر جيدا الكُسور التي كانت تزورني سنويا، مرّة أو مرتين
أتذكّر الألم بداية الإصابة كونه لا يطاق فيذهلني حتّى عن التنفس! وما أن يستقر سكين الألم الذي انغرس حتى تأتي دوخه وينهار جسدي فلا أستطيع الحراك لدقائق. خلال الرحلة للمستشفى التي أصبحت روتينية مع والدي أو أحد الأعمام، أتذكّر أن الألم يهدأ بشرط عدم تحريك موضع الإصابة، لكن الألم يتحول إلى قلب نابض يتناغم مع ضخ الدم في عروقي، وأذكر حرارة الجبيرة بعد لفّها فوق طبقة القُطن حيث تُصبِح حامية وهي تنشفُ بسرعة. أذكر الحكّة التي تأتي بعد فترة ليست قصيرة والتي قيل لي أنها علامة تعافي فأتقبلها وأنا أحاول الحك تحت القطن من أطراف الجبيرة، وتزاد الرغبة الحكحوكية وتصل ذروتها عند إزالة الجبيرة وتعرية اليد أو الرجل ورؤية الجلد المتجعد كوجبة شهية لأفركها منتشيا
“انتبه تنكسر!” وتحذيرات شبيهة كانت تصدر ممّن حولي وأنظر لها كتنمّر واستنقاص، بينما أفهم اليوم أن غالبها رحمة. مع كثير من العناد وقلب أم كبير تركني وما أريد، عشت حياتي كأقراني وأخوتي فلا أذكر أني امتنعت عن فعل شيئ خشية الإصابة، مع شكّي بأن الآخرين كانوا يرأفون بي، وكان الثمن طبعا زيارات متكرّرة للمستشفى تخلّلها بعض التنويمات عندما كبرت وزادت قوتي فزادت قوة الإصابة. هشاشة عظام هو العنوان الذي اتفق عليه الجميع حينها، فجائتني النصائح بشرب الحليب الذي كنت أكرهه، وكانت أمي تربط بين مشاكلي الصحية من كسور ونحافة وقصر القامة فتجتهد بأخذي لعيادات مختصّة لم تكن تغيّر كثيرا من وضعي الصحي، ولكني أحسست بحبّها يرافقني في كلّ خطوة، وعندما كانت تشتري لي الكورن فلكس الذي أحبّه أملا في زيادة وزني
توقفت الكُسور في المراهقة واكتسبتُ الكثير من الوزن متجاوزا الحدّ الطبيعي في الجامعة، وحينها علمت أن معاناتي كانت نتيجة مرض جيني يسبب هشاشة العظام التي تتوقف مع البلوغ، فنظرت للموضوع على أنه فصل من الحياة مضى وانتهى، ولكن. عندما أظلتني غمامة منتصف الربعين أطلّ معها هذا الماضي الأليم برأسه، فلقد وقع لي حادث بسيط نتج عنه كسور متعدّدة، وعندما عُدت لأقرأ عن مرضي السابق وجدت أن أعراضه قد تعود بعد الأربعين! ليراودني شبح طفولتي الهشّة وضَعفُها من جديد
كانت الإصابة في الأضلاع رافقها ألم حاد في البداية ثمّ هدأ مع السكون، معيدا ذكريات الماضي، لكن يبدو أنّ هذه الإصابة لعينة بشكل استثنائي فلا توجد جبيرة لكسر الأضلاع ومع كلّ حركة قيام وجلوس واستواء يتجدّد الألم، والمصيبة عندما يحدث سعال أو عطسة فيتحرك الكسر بشكل كبير فتأتي طعنة التي لا يصدها أقوى المسكّنات. لأسابيع صارعت ألما أسوء من أي وقت مضى، شديد ومتكرّر يحرمني النوم كلّ ساعة وأقلّ، ما جعلني أتأمّل بأفكاري وأشعر بانفعالاتي خلال هذه المحنة
في البداية كانت الأفكار والمشاعر التلقائية السلبية مثل الحزن ورثاء الذات والتساؤل عن سبب حصول ذلك لي دون الآخرين وكيف أني سيء الحظ، وما إلى ذلك. لكني لاحظت عدم انغماسي في هذه الافكار والتركيز على اللحظة ومحاولة التعامل معها بشكل أفضل، ثم محاولة استغلال الفرص المتاحة ما أمكن والتي لم تحدّها الإصابة أو الايجابيات التي نَتَجت عنها. في بداية الإصابة كنت أتحرّك بشكل محدود وكنت مع مجموعة فحاولت مشاركتهم الفعاليات والاستمتاع بالتجربة إلى حدّ كبير، ومع تطور الإصابة اضطررت لدخول المستشفى ما أحاطني بالكثير من الحب والرفقة الجميلة فحاولت قضاء وقت ممتع معهم ما أمكن، وأن لا يذهلني الألم عن الأرواح الجميلة حولي وابتسامة حبيبتي المذهلة
لمدّة أسبوعين من الإصابة التي هيمنت على حياتي اليومية وحرمتني النوم، حاولت تخفيض معاناتي النفسية عبر التأمل والقراءة ومشاهدة الكثير من المقاطع السخيفة. خلال هذه التجربة، لا أعتقد أني قمت بشيء استثنائي بقدر ما ظهر لي مقدار التغيّر الذي حصل في شخصيتي خلال السنوات القليلة الماضية. واليوم أبدأ رحلة فهم وضعي الصحي بشكل أفضل والتفكير في طرق التعامل مع الضعف البدني الذي يراودني مع التقدّم بالعمر، مذكّرا بضرورة الاعتناء بجسدي والتزام نمط حياة أكثر صحّة
شكرا
الرياض في الحادي عشر من نوفمبر ٢٠٢٤