الاستقالة إلى الفراغ

أن تترك العمل دون الانتقال لوظيفة أخرى أو التقاعد أو العمل الحر. أن تستقيل ثم تذهب لبيتك دون عمل هو أمر يبدو للبعض جنونا ولآخرين حلما يداعبهم، ولكن أزعم أن هنالك قلّة يفهمون ما أمرّ به ويرون ما فعلته كحاجة وأمر ضروري! وأن تُقدم على ذلك في منتصف الأربعين فذلك يعدّ إعلانا مزخرفا بدخولك أزمة منتصف العمر؟

التحقت بعملي عام ٢٠٠٩ واستقلت هذا العام ، وليس لدي خدمة سابقة تؤهلني للتقاعد، ولم أجد وظيفة بديلة مناسبة تخلو من إشكاليات وظيفتي السابقة، فقررت أن أنفك من عجلة التنمية لمدة سنة على الأقل مستعينا بمبلغ وفرته منذ تشكّلت عندي قناعة الهروب، قبل أكثر من ثلاث سنوات. 

نعم أنا محظوظ بتوفّر هذا الخيار لي ووجود فائض مالي وانخفاض الالتزامات المادية، وأعلم أن الكثيرين لا يملكون رفاهية ترك العمل كونهم يعيشون حدّ الكفاف، ما يجعل تركي لوظيفة دخلها أعلى من المتوسط التزاماتها منخفضة أمر ربما يجعل الكثيرين يشعرون بالإهانة كون فرصة وظيفية كهذه غير متاحة أصلا لهم، فضلا عن تركها طوعا! 

لماذا تركت عملي؟

الإجابة البسيطة هي لكونه يتعارض مع قِيمي. وجدت نفسي ضمن مؤسسة ثقافتها الداخلية تطبّعت مع ممارسات لا أقبلها وأغلبية من حولي متصالحين معها. بداية حاولت إحداث تغيير، لكني لم أضيع الكثير على تلك المحاولة كون القضية خاسرة بوضوح. بعد ذلك حاولت أن أقوم بعملي كما أرضاه بغضّ النظر عما يفعل الآخرون فوجدت أنها فكرة ساذجة لتداخل مهامي مع الآخرين ومتطلبات عملي التي يحددونها، وعلى الرغم من محاولة اعتزالي لهم وما يعبدون، إلا أن عزلتي خلقت مشكلتين. الأولى تأنيب الضمير لتجاهلي مهام (لا أرتضيها) ولكنها ضمن مسؤولياتي الوظيفية، والشيئ الثاني الأكثر إيلاما هو التغيير الذي حصل لشخصيتي بتحولي لإنسان لا يعجبني، سلبي ساخر ولاذع لا يهتم لكثير مما يحصل حوله! وفي الفترة الأخيرة لاحظت انخفاضا في أدائي حتى في المهام القليلة التي حصرت تركيزي وجهدي عليها لأهميتها عندي، فكانت القشة التي قصمت ظهر بعيري معلنة احتراق وظيفي نفسي مكتمل الأركان. 

الإجابة الأصعب والأعقد والأكثر حساسية على سؤال سبب ترك العمل تشمل خلطة مشوّشة من إشكاليات هيكلية في جهة العمل وطبيعة الوسط الوظيفي وعدم توافقي مع واقعه، بالإضافة لمعاناتي من اكتئاب جذوره أعمق من العمل، وايضا أزمة وجودية تتمثل بفقدان المعنى واستشعار أن الحياة فعلا قصيرة ومحاولة الاختيار بحكمة كيف سأقضي المتبقي منها. 

سيرتي الشخصي ليست عظيمة أبدا، ولكنها مميزة بمعنى الاختلاف عن المعتاد. المعتاد أن ينشأ شخص في بيت وحارة ومدينة أقصى تغيير يحصل له أن ينتقل بين مدارسها، وربما يتغيير البيت مرة أو مرتين بالعمر. أعتقد أني عشت حيوات عديدة بمعنى أني تنقلت كثيرا منذ طفولتي بين مدن ودول كثيرة ومدارس أكثر من المطلوب وفي كل مرة تكون هنالك علاقات جديدة وبيئة مختلفة وذكريات كأنها من حياة أخرى. لم أختر ذلك ولا أريد أن أصبغ حياتي بإثارة زائفة ففي كثير من الأحيان كان الأمر متعبا، ولكني تعودت على عيش حياة مختلفة كلّ بضع سنين. فلدي حياة ما قبل حرب الخليج وحياة ما بعدها، ثم الحياة الجامعية الأولى الفاشلة المحبطة ثم حياة الجامعة الثانية المثيرة القصيرة الناجحة، ثم الابتعاث الأول في دولة ثم الابتعاث الثاني في دولة أخرى، ثم العودة للرياض “للاستقرار”، والآن افتح فصلا جديدا كما يقول معشر القراء “لأن حياة واحدة لا تكفي”. 

لا أعلم ما سأفعل الآن سوى أني أحب التصوير وأجيده وأني سأكتب كما أفعل الآن تدوينا ولربما أصنع كتابا.  لا رؤية واضحة لما سيحصل وأنا متصالح مع مفاجئات الحياة لكني أخشى تقلب مزاجي ووطأة الاكتئاب، وعليه أنوى طلب التشخيص والعلاج، ابتداء من هذا الاسبوع. 

شكرا

 

الرياض، الثالث من أغسطس ٢٠٢٤