“وتحسَبُ أنّك جرم صغير، وفيك انطوى العالم الأكبر”
أثناء رحلة مسبار فويجر في المجموعة الشمسية، طَلَب كارل ساغان أن يُوجّه المشهد نحو الأرض للمرة الأخيرة قبل أن تختفي، ومن تلك المسافة البعيدة ووسط الأجرام الأكبر والأقرب، بدا كوكبنا نقطة باهتة لا تكاد تذكر، صاغ حولها قطعة فنية جميلة وفلسفية عميقة بعنوان ” النقطة الزرقاء الباهتة” توضح تفاهة أحداث التاريخ البشري العظيمة حينما توضع في إطار الكون الواسع
لا أظنّ كوني الوحيد الذي قضى طفولته يحلم بتغيير العالم وتحقيق الإنجازات العِظام، ولربما كانت جرعة النرجسية أعلى عندي فاعتقدت امتلاكي قدرات خارقة بتأثير القصص المصورة التي تابعتها كثيرا. وكما حصل مع “القدرة على الطيران” بدأت تتساقط هذه الأوهام على الطريق، إلاّ أن الغرور والأنا المتضخمّة (ايغو) يبدو أنه لازمني طويلا وأفسد الكثير.
من كتاب النصوص في المرحلة الابتدائية أذكر مقطعا يقول “أن تخطئ في تقدير نفسك متعاليا خير من أن تضع نفسك دون قدرها” وأتفهّم هذا المنطق الذي يركّز على الوظيفة الرئيسة للأنا وهي خلق الدافع للإنجاز، ولكني أرى أيضا وبوضوح مخاطر الغرور من باب “رحم الله امرئ عرف قدر نفسه”. أعلم جيدا أن كثيرا من “انجازاتي” الشخصية التي لها فضل تحسين ظروف حياتي كان ورائها الغرور (ايغو) ولكني أشكّ بأني لو حجّمت هذا الغرور أبكر لربما كنت أكثر رضى مع إنجاز الكثير؟ أثناء حوار البارحة مع صديق، اتضح لي أن أول ثلمة في جدار نرجسيتي جاءت مع الحبّ! عندما أحببت انتقل محور الكون عني لأول مرة، وبدأت أحاول فهم منظور الآخر والنظر لنفسي عبر عيونه، وبدأ تآكل مستحقّ لوهم التميّز. الضربة القاضية جاءت في مرحلة الدكتوراة التي طحنت ما تبقى من شذرات الغرور، للحدّ الذي تمنيّت معه أن أكون “مثل الآخرين” حولي
إلاّ من رحم ربي، كلّنا سيعبر الحياة دون أن يترك أثرا في جدار الإنسانية، وتقبّلت أني لن أفوز بجائزة نوبل، وأحاول الآن عيش حياة عادية ولكنها جيدة. حتّى لو تيسرت لي ظروف مسيرة الحياة المميزة والعظيمة، لربما كان في ذلك في غير مصلحتي الشخصية، بتجيير حياتي (القصيرة) لخدمة “المجتمع” عبر طموحات غُرست في ذهني دون تأمل أو قناعة؟ ولربما أدركت ذلك متأخرا بعد فوات الأوان، منتصف السبعين مقارنة بمنتصف الأربعين
كوني مجرد هباءة صغيرة وعابرة على مقياس الحياة وأن أصبح نكرة لا يعرفني سوى المحيطين بي، ليس أمرا سيئا! فعالمي الخاص وكيف عِشته ومع من؟ أهمّ من القلق حول صورتي عند الغرباء، خاصة بعد مغادرتي للعالم! إدراك قِصَر الحياة والتخلي عن أوهام العظمة ليس بالضرورة بؤسا وعجزا، بل أجدها تفتح لي نافذة لعوالم ممكنة من العيش الفاضل البسيط المتحرر من وصفات الآخرين، التي ربما لاتناسبني
ومع رحلة الاستكشاف الداخلي، أجدني مفتونا أكثر من ذي قبل بالأفراد من حولي وعوالمهم الجميلة، التي لطالما أعماني الغرور عنها! أجدني أرغب بالصحبة و مشاركة الخبرات، وأكون مع أصدقائي، كنزي الأثمن
شكرا
الخبر، الثامن من أغسطس ٢٠٢٤