لحظة وجودية

اهتّم لصغائر الأمور

مع نهاية البعثة والرجوع للوطن حضرت في ذهني فكرة جديدة، بسيطة لكنها جسيمة! مع الإحساس بأني على أعتاب طريق جديد في الحياة، بدأت أدرك أن أبسط قرارات الحياة اليومية يمكن أن تحدد مصيري، فطريقة كلامي مع غريب أو لقائي شخص صدفة أو حضور فعالية عامة، قد تقود لسلسلة أحداث ذات أثر كبير على حياتي. هذا الانتباه الجديد مثير للاهتمام كونه يفتح أبواب الاحتمالات، ويُوقظ بعضا من القلق، صديقي القديم. لا أزعم أن هذا الوعي حسّن حياتي أو إدراكي لكثير من المواقف التي تضمنت لحظات وجودية واضحة أو أعطاني المزيد من التحكّم بمصيري! وأظنّ سبب ذلك الرئيس هو عشوائية البيئة  

تختلف هذه النظرة عمّا عهدته معظم حياتي سواء إيمانا بالقدر أو تركيزا على الأمور الكبيرة في الحياة اتباعا لنصيحة “لا تهتم لصغائر الأمور”، فكانت لدي رؤية واضحة عن التخصص والوظيفة وتصور جيد لطريقة زواجي وأسلوب حياتي العام، والباقي قطع من اللغز ستسقط في محلها بجانب القطع الأكبر التي أوضحت ملامح المشهد. أمّا الآن، فهذا الإدراك يقود إلى استحالة التنبؤ وإحساس بالمسؤولية متنامٍ على كلّ قرار وتفصيل صغير، وإدراك بأن نتيجة هذه القرارات الصغيرة ومفترقات الطرق فإني أنا أيضا أتغيّر مع كلّ منها، ولو قليلا، لأساهم بصنع نفسي للأفضل و الأسوء

مثال تأثير اللحظات الوجودية هو زواجي، حيث ظننت سابقا أنّ الأهمّ هو التوافق فحرصت على تحقيقه ونجحت في ذلك لأكتشف لاحقا أن هنالك ماهو أهم من التوافق في العلاقات، وهو بناء العلاقة على مدى سنين من لبنات التجارب، فالتوافق ماهو إلا مجّرد إمكانية (مهمّة) وشرط، ولكنّ حقيقة العلاقة هي التجارب الفعلية التي نخوضها ومدى ايجابيتها وكيف نُعامل بعضنا أثناء الرحلة، التي لا تتحدد وجهتها قبل الإنطلاق وإنما أثناء الطريق، وكما قيل “الحياة رحلة وليست وجهة”، وزاد بعضهم أن الأهمّ هي الرفقة!  ومثال آخر هو فرصة وظيفية مميزة تيّسرت لي بشكل غير متوقع، عبر نشر مراجعة لكتاب في موقع عام

أزعم بأن هذا المنظور يتطلّب شجاعة بتحمل مسؤولية الكثير ممّا “يحصل لي” مع الإقرار بأن تلك المسؤلية لا تُغفل أثر البيئة والظروف المحيطة، ولكن لا أقل من تحمّل مسؤوليتي الفردية ضِمن نطاق الظروف الخارجة عن إرادتي. وأزعم أيضا بأن تلك الجرأة في مواجهة عشوائية الحياة وعدم قدرتي على التنبأ بها تتطلب تواضعا وانكسارا ضروريا، وإدراكا بأن الحياة أكبر من غروري الساعي للتحكّم بها، والحاجة لتقبل النقص في ذاتي وضعفي في مواجهة تلك الظروف، لربما تقبلا دون شروط كما يصفه حُكماء الشفاء النفسي

ربما توّلد اللحظة الوجودية واحتمالاتها اللامتناهية إحساسا بعدم اليقين، لكنها ليست نزعة عَدَميّة بقدر ماهي نزعة لمعرفة مكاننا في العالم والمسؤولية التي تأتي معه، ومحاولة الاستفادة من وجودنا القصير في الحياة، كما هي لا كما يصرّ غرورنا على تصويرها

شكرا 

الرياض، التاسع من أغسطس ٢٠٢٤

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *