خططت لحياتي الحالية وأخطط للقادم منها، فتبدو الحياة كرحلة لن تبدأ
تجذبني هذه الفلسفة كونها تفتح نافذة لهروب القلق الذي يملئني حول الخيارات الكثيرة جدا واحتمالات أن أخطئ كثيرا، كما القلق من أحداث الماضي وشعور الأسى من أخطائي خاصة تلك التي بالأمكان تجنبها. بالإضافة للحرية من عبء القلق الملازم لشخصيتي، يعدني منهج عيش اللحظة بحياة أكثر ثراء بالخبرة الشخصية والاستمتاع بتفاصيل الحياة التي نغفل عنها عندما يهرب العقل نحو الماضي والمستقبل وشاشة الهاتف، فتصبح الأشياء العادية مصدرا للرضى أو حتى المتعة مثل الإحساس بنسمة باردة أو تأمل أوراق خضراء أو سماع ضحكة طفل وملاحظة ابتسامته من بعيد. نعم، قول ذلك سهل ولكن تطبيقه صعب! لكن آمل أن التمرين يمكن أن يرسخ مثل هذه العادات؟ حتى وإن فشلت في التركيز على اللحظة الراهنة كراهب بوذي، تظلّ فكرة تقبل الماضي وإطلاقه كعصفور هدف عظيم كما هو هدف التحرّر من القلق حول المستقبل، وأعتقد أن حكماء كُثر وجدوا في ذلك وسيلة للحياة الهانئة بأن يكون الإنسان أفضل عندما يمارس هذه الفضيلة، التخللّي!
يأبى عقلي الناقد إلا أن يلج في ثغرات أي فكرة مهمها كانت جاذبة، فأحاول تقييم مدى واقعية دعوى عيش اللحظة؟ إن أخذنا الدعوى على ظاهرها ستبدو فكرة تجاهل الماضي والمستقبل تماما فكرة سيئة، كونه لا يوجد إنسان لا يحتاج التأمل في أفعاله والأحداث من حوله ومحاولة الحكم عليها والتعلّم منها ومن ثم القفز للمستقبل في محاولة للتنبؤ في الأحداث القادمة وخيارات التعامل معها. وفي نسخة متطرفة من تطبيق عيش اللحظة سيكون الفرد عاجزا عن ربط أي مهام حصلت اليوم الماضي بما سيحصل غدا ويفاجئ بعدم وجود طعام بالثلاجة وانقطاع الكهرباء لعدم تسديد الفاتورة. أعلم أن دفع أي فكرة نحو التطرّف يفسدها مهما كانت مفيدة، ولكن مشكلتي هنا هي الحد الفاصل. كمّ التفكير خارج اللحظة الذي أحتاجه للبقاء ضمن الحياة والمجتمع؟ وإلى أي مدى أستطيع تحمّل رفاهية عيش اللحظة ضمن حياتي اليومية، خاصة عندما تكون هنالك مطالب خارجية من بيئة العمل والعلاقات الاجتماعية؟ ربما ليست هنالك وصفة شاملة تسع الجميع، بحيث يكون التجريب هو المقياس الفردي للتجربة الشخصية؟
عيش اللحظة قد يتطلب شجاعة، شجاعة مواجهة الموقف والانتباه لتفاصيله، حتى ما لا يعجبك منها. البارحة عملت على مهمة كنت أتجنبها لشهور بسبب القلق الذي تثيره عندي، وطبعا التجنب زاد الوضع سوءا. قررّت مواجهة المهمة بهدوء وصبر وتحويلها فرصة للتأمل كون المهمة رتيبة. كثيرا ما نُشتّت انتباهنا عن مواقف عمدا وخوفا للهروب من مواجهتها، كما ألجأ لهاتفي كلما كنت في موقف اجتماعي لايعجبني، بدلا من التأمل فيه ومحاولة فهم مشاعري حوله. كما يقول المتأملون أن تلاحظ الموقف كما هو لا أن تسعى للحكم عليه، يجعل ذهنك أكثر صفاء ويشحذ ملاحظتك بعيدا عن غيوم الأفكار الواجمة التي تأخذك بعيدا عن الموقف، مثلما يحصل عندما ندخل في نقاش، وبدلا من سماع المُخالف ومحاولة تفهّم موقفه، نفكّر في تجهيز الرد ولا ننبه لما قال أصلا!
أسمع تزايد الدعوات لعيش اللحظة في ردّة فعل على بيئة تزداد كلّ يوم في مقدرتها على سرقة انتباهنا وتشتيته. متأكد أن هنالك من يستطيع التأمل والممارسة وإن كان في خضم التزامات العمل والعلاقات والهوايات، ولكن يصعب علي ذلك. أسعى للتمرن بطيئا في هذه المهارة مستغلا تفرغي الحالي ودعم زوجتي وأصدقائي، آملا في تكوين هذه العادة لنقلها معي عندما أعود لخضم الحياة المعتاد، فأعود أكثر وعيا وأكثر تحررا من قيود الماضي والمستقبل، الوهمية والقاسية جدا.
شكرا
الرياض، السادس من أغسطس ٢٠٢٤